من المفيد أن نسوق هنا ما وقفنا عليه منها أو بعضها لعل فيها عظة وذكرى لمن يقلدهم -بل يقلد من دونهم بدرجات- تقليداً أعمى ويتمسك بمذاهبهم وأقوالهم كما لو كانت نزلت من السماء والله عز وجل يقول :

﴿اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف:3]

الإمام أبو حنيفة -رحمه الله-

فأولهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت -رحمه الله- وقد روي عنه أصحابه أقوالاً شتى وعبارات متنوعة كلها تؤدي إلى شيء واحد وهو وجوب الأخذ بالحديث وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة لها:

إذا صح الحديث فهو مذهبي

ابن عابدين في “الحاشية” 1 / 63

لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه

ابن عابدين في “حاشيته على البحر الرائق” 6 / 293

وفي رواية:

حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي

وزاد في رواية:

فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غداً

وفي أخرى:

ويحك يا يعقوب (هو أبو يوسف) لا تكتب كل ما تسمع مني فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غدا وأرى الرأي غدا وأتركه بعد غد

وقال أيضاً:

إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول ﷺ فاتركوا قولي

الفلاني في الإيقاظ ص 50

الإمام مالك بن أنس -رحمه الله-

قال:

إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه

ابن عبد البر في الجامع 2 / 32

ليس أحد بعد النبي ﷺ إلا ويؤخذ من قوله ويُتْرَك، إلا النبي ﷺ

ابن عبد البر في الجامع 2 / 91

قال ابن وهب: سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء فقال: ليس ذلك على الناس. قال: فتركته حتى خف الناس فقلت له: عندنا في ذلك سُنّة فقال: وما هي؟ قلت: حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحنبلي عن المستورد بن شداد القرشي، قال: رأيت رسول الله ﷺ يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه، فقال: إن هذا الحديث حسن وما سمعت به قط إلا الساعة ثم سمعته بعد ذلك يُسأَلُ فَيَأمُر بِتَخلِيل الأصابع.

مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ص 31 – 32

الإمام الشافعي -رحمه الله-

وأما الإمام الشافعي -رحمه الله- فالنُّقُولُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ أكثر وأطيب وأتباعهُ أكثر عملاً بها وأسعد، فمنها:

ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله ﷺ وتعزب عنه فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله ﷺ لخلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله ﷺ وهو قولي

تاريخ دمشق لابن عساكر 15 / 1 / 3

أجمع المسلمون على أن من اسْتَبَان له سُنَّةٌ عن رَسول الله ﷺ لم يَحِلَّ له أن يَدَعَها لقول أحد

الفلاني ص 68

إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله ﷺ فقولوا بسنة رسول الله ﷺ ودعوا ما قلت. وفي رواية:فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد”

النووي في المجموع 1 / 63

إذا صح الحديث فهو مذهبي

النووي في المجموع 1 / 63

أنتم أعلم بالحديث والرجال مني فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني به أي شيء يكون: كوفياً أو بصرياً أو شامياً حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا

الخطيب في الاحتجاج بالشافعي 8 / 1

كُل مسألة صَحَّ فيها الخبر عن رسول الله ﷺ عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجعٌ عنها في حَياتي وبعد مَوتِي

أبو نعيم في الحلية 9 / 107

إذا رأيتموني أقول قولا وقد صح عن النبي ﷺ خلافه فاعلموا أن عقلي قد ذهب

ابن عساكر بسند صحيح 15 / 10 / 1

كل ما قلت فكان عن النبي ﷺ خلاف قولي مما يصح فحديث النبي أولى فلا تقلدوني

ابن عساكر بسند صحيح 15 / 9 / 2

كل حديث عن النبي ﷺ فهو قولي وإن لم تسمعوه مني

ابن أبي حاتم 93 – 94

أحمد بن حنبل -رحمه الله-

وأما الإمام أحمد فهو أكثر الأئمة جمعاً للسنة وتمسكاً بها حتى كان يكره وضع الكتب التي تشتمل على التفريع والرأي، ولذلك قال:

لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا

ابن القيم في إعلام الموقعين 2 / 302

وفي رواية:

لا تقلد دينك أحداً من هؤلاء، ما جاء عن النبي ﷺ وأصحابه فخذ به، ثم التابعين بعد الرجل فيه مٌُخير

وقال مرة:

الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي ﷺ وعن أصحابه ثم هو من بعد التابعين مُخيَّر

أبو داود في مسائل الإمام أحمد ص 276 – 277

رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار

ابن عبد البر في الجامع 2 / 149

من رد حديث رسول الله ﷺ فهو على شفا هلكة

َابن الجوزي في المناقب، ص 182

تلك هي أقوال الأئمة -رضي الله تعالى عنهم- في الأمر بالتمسك بالحديث والنهي عن تقليدهم دون بصيرة وهي من الوضوح والبيان بحيث لا تقبل جدلاً ولا تأويلاً، وعليه فإن مَن تمسَّك بكل ما ثبت في السنة ولو خالف بعض أقوال الأئمة لا يكون مبايناً لمذهبهم ولا خارجاً عن طريقتهم بل هو مُتَّبِعٌ لَهم جَميعاً ومتمسكٌ بالعُروة الوثقى التي لا انفصام لها، وليس كذلك من ترك السنة الثابتة لمجرد مخالتفها لقولهم بل هو بذلك عاص لهم ومخالف لأقوالهم المتقدمة.