في هذا الدرس
﴿فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا﴾ انتبه: ﴿أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ﴾ الآن وطأت أقدامكم البرّ، وأحسستم بالسّلامة و النّجاة من كُربات وشدّة البحر، ورجعتم إلى الشّرك، هل أمنتم أن يخسف الله بكم جانب البرّ؟ ﴿أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾ هل تأمنون من ذلك؟
فضيلة الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
مختصر شرح الشيخ [*]
بسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ
إنَّ الحمدَ لله نحمَده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسِنا وسيِّئاتِ أعمالِنا من يهدِه الله؛ فلا مُضلَ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهدُ أنَّ مُحمَّدًا عبدُه ورسولُه ﷺ وعلى آله وأصحابِه أجمعين. أما بعد،
قال شيخ الإسلام الإمام مُحمَّد بن عبد الوهَّاب -رحمه الله وغفر له- في كتابه: القواعدُ الأربع:
المتن (الجزء 5 من 6)
القاعدة الثالثة
أنّ النّبيّ ﷺ ظهر على أناس مُتفرّقين في عباداتهم، منهم مَن يعبد الملائكة، ومنهم مَن يعبد الأنبياء والصّالحين، ومنهم مَن يعبد الأشجار والأحجار، ومنهم مَن يعبد الشمس والقمر، وقاتَلهُم رسول الله ﷺ، ولم يُفرِّق بينهم، والدّليل قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لله﴾ [الأنفال: 39] ودليل الشّمس والقمر قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون﴾ [فصلت: 37] ودليل الملائكة قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا ۗ أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:80] ودليل الأنبياء قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ [المائدة: 116] ودليل الصّالحين قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ [الإسراء: 57] ودليل الأشجار والأحجار قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالعُزَّى ○ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾ [النّجم: 19-20] وحديث أبي واقد اللّيثي رضي الله عنه قال: "خرجنا مع النّبيّ ﷺ إلى حُنينٍ ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سِدرة، يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذاتَ أنواط كما لهم ذاتُ أنواطٍ" [1] الحديث.
هذه القواعد الأربع كما عرفنا قواعد مهمّة للغاية ويحتاج كلّ مسلم إلى معرفتها؛ لأنّ معرفةَ هذه القواعد بإذن الله -تبارك وتعالى- وضبطُها يكون بإذن الله -تبارك وتعالى- صِمامَ أمان للمسلم من الوقوع في شبكة الشّرك وحبائل أهله ومصائد الشّيطان.
وقد جاء في التعوّذات المأثورة عن النّبيّ ﷺ: "وأعوذ بك من الشيطان وشِرْكِه" [2] وفي رواية: "وشَرَكِهِ" [3] أي حبائِله وشباكِه التي يضعها للنّاس ليوقعهم في الشّرك بالله -تبارك وتعالى-.
والشّرك كما كُنَّا عرفنا شبكة وله جوانب كثيرة ومجالات متعدّدة ومن لم يكن في هذا الباب على أصول ثابتة وقواعد راسخة ربّما زلّت به القدم في أفضل أمر، وأعظم باب، ولهذا ينبغي على كلّ مسلم أن يكون على عناية تامّة ورعاية قويّة لهذه القواعد الأربعة العظيمة التي قرّرها الإمام -رحمه الله تعالى- وذكر دلائلها وشواهدها من كتاب الله -تبارك وتعالى-.
كذلك ينبغي أن نعلم أنّ هذه القواعد الأربعة، قواعد ينبني بعضها على بعض ويترتّب بعضها على بعض، وبِفهمها مجموعةً؛ تتحقّق بإذن الله -تبارك وتعالى- السلامةُ والعافية.
وكنّا عرفنا من خلال القاعدة الأولى التي قرّرها المصنّف -رحمه الله- تعالى- أنّ الكفّار الذين بُعث فيهم رسول الله ﷺ كانوا يُقرّون بأنّ الخالق الرّازق المنعم المتصرّف المدبّر للأمور هو الله -تبارك وتعالى- وحده، كانوا يُقرّون بذلك وذكر الشّيخ -رحمه الله تعالى- الدّليل على ذلك من كتاب الله -عزّ وجلّ- ولم يُدخلهم ذلك في الإسلام.
فَعُلم بذلك أنّ مجرّد الإقرار بأنّ الله الخالق الرّازق المنعم المتصرّف المدبّر لشؤون الخلائق ليس كافيًا وحده لدخول المرء بالإسلام، ما لم يعبد الله مخلصا له الدّين، وإذا كان يُقرّ بأنّ الله الخالق الرّازق المنعم المتصرّف ولا يخلص الدّين له -تبارك وتعالى- فهو مشرك بالله، كافر بالله العظيم؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرَهُمْ باللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونْ﴾ [يوسف: 106] ﴿وَ مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرَهُمْ﴾ بالله أي ربًّا خالقًا رازقًا منعمًا متصرّفًا مدبّراً إلا ﴿وَهُمْ مُشْرِكُونْ﴾ أي مشركون معه غيره -تبارك وتعالى- في العبادة التي هي حقٌّ خالص لله -جلّ وعلا- لا يجوز أن يُجعل لأحد معه فيه شَرِكة.
ثمّ بعد ذلك ذكر -رحمه الله- تعالى- القاعدة الثّانية وهي: أنّ المشركين الكفّار عندما يُسألون لماذا تعبدون هذه الأوثان وتدعونها من دون الله وأنتم تُقرّون أنّها ليست خالقةً ولا رازقةً ولا منعمةً ولا متصرّفةً ولا تملك عطاءً ولا منعاً، تعبدونها وأنتم تُقرّون أنّها لا تملك شيئاً من ذلك، بل تُقرّون أنّها نفسها مملوكة لله، خاضعة و مربوبة له -عزّ وجلّ-، ولهذا كانوا يحجّون ويقولون في تلبيتهم في الحجّ: "لبّيك لا شريك لك إلاّ شريكًا هو لك تملكه وما ملك" [4] هكذا يعتقدون (تملكه): أي هو مملوك لك هذا الشّريك الذي جعلناه لك، خاضع لك، وما ملك، ولا يملك -أي- لنفسه عطاءً، أو منعاً، أو خفضاً، أو رفعاً، فضلاً عن أن يملك ذلك لغيره، فيقولون نحن نعبدها ونتوجّه إليها؛ لطلب القربة والشّفاعة، لطلب القربة أي: من أجل أن تقرّبنا إلى الله -تبارك وتعالى-، من أجل أن تكون واسطة بيننا و بين الله، من أجل أن تكون شفيعاً لنا عند الله -تبارك وتعالى- و ذكر المصنّف الدّليل على ذلك وهو قوله -تبارك وتعالى-: ﴿وَالّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءْ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى﴾ وذكر كذلك قول الله -تبارك وتعالى-: ﴿وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَ مَا لاَ يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ﴾ أي نحن نعبد هذا الذي لا يضرّ ولا ينفع لا لشيء إلاّ لأجل أن يكون شفيعاً لنا عند الله -تبارك وتعالى-.
إذًا القاعدة الأولى: أنّ الكفّار كانوا يقرّون بأنّ هذه الأصنام لا تخلق ولا ترزق ولا تحيي ولا تميت... إلى آخره، ولم يدخلهم هذا الإقرار بالإسلام؛ لأنّهم لم يخلصوا العبادة لله.
والقاعدة الثانية: أنّ هؤلاء عندما يُسألون لماذا تعبدونها وأنتم تُقرّون أنها لا تملك شيئا، ولا تخلق ولا ترزق؟ يقولون نحن نعبدها وندعوها ونتوجّه إليها من أجل أن تُقرّبنا إلى الله زُلفى وأن تكون شفيعاً لنا عند الله -تبارك وتعالى-.
هذه الممارسة التي يفعلها المشركون، هل هم معذورون في هذا التوجيه الذي ذكروه؟ قالوا نحن لا ندعوها لأننا نعتقد فيها أنّها خالقة رازقة؛ بل ندعوها لأجل أن تقرّبنا إلى الله زُلفى، هل هذا مخوِّلا ومسوِّغا لإعفائهم من تَبِعة ذلك العمل، وتلك الممارسة؟حاشا وكلَّا، بل هم بذلك كفّار مشركون ولهذا قاتلهم النّبيّ ﷺ، استباح أموالهم ودماءهم ﷺ، ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لله﴾ [الأنفال:39]
علامة مرجعية (1)
إذًا هذه هي القاعدة الأولى، والقاعدة الثّانية. يأتي بعد ذلك قاعدة ثالثة مهمّة جدّا وهي تنبني على القاعدتين السّابقتين: تأتي هذه القاعدة جواباً على تساؤل: هل الشّرك الذي ذمّه الله وحذّر منه وعاب أهله وتوعّدهم، هل هو خاصٌّ بمن عبد صنماً أو توجّه إلى حجر؟ أو أنّه شامل لكلّ ما عُبد من دون الله أيّا كان ومهما كانت صفته؟ هذه قاعدة مهمّة هنا في هذا الباب، لأنّ بعض ممن ابتلوا بالباطل، والتّوجّه إلى غير الله -تبارك وتعالى- بالدّعاء والرّجاء والطّلب والسّؤال، وإنزال الحاجات والطلبات والرّغبات، إذا تُليت عليه بعض هذه الآيات لوعظه وتنبيهه وتذكيره وتحذيره ممّا هو عليه من ضلال وباطل، ماذا يقول؟ يقول هذه الآيات الَّتي تتلى في القرآن تختصّ بمن توجّه إلى حجر وتوجّه إلى شجر، أمّا نحن لم نتوجّه لا إلى حجر ولا إلى شجر مثل هؤلاء المشركين، نحن توجّهنا إلى أولياء صالحين أو إلى أنبياء مقرّبين، أو إلى ملائكة، نحن لم نتوجّه إلى شجر وحجر، فكيف تتلى هذه الآيات علينا، ونُوعظ بهذه الآيات وهي لا تتناول العمل الذي نقوم به، لأنّ الآيات تتعلّق بمن عبد الأصنام؟! يقولون هكذا، يقولون هذه الآيات تتعلّق بمن عبد الأصنام (اللاّت، العُزّى، مناة، هُبل... إلى آخره) أمّا الذي يتوجّه إلى وليّ من الأولياء أو صالح من الصّالحين أو نبيّ من الأنبياء أونحو ذلك هذه لا إثباتة لها ولا علاقة لها به هكذا يقولون،فهل هذا الزّعم زعمٌ صحيح، أم هو زعمٌ باطل فاسد؛ أودى بأصحابه إلى دركة الشِّرك، وهلكة الباطل والعياذ بالله-.
فتأتي القاعدة الثالثة عند المصنف -رحمه الله- ليرسي هذا الأمر ويجلّيه ويزيل الغَبش الذي قد يصاب به بعض النّاس ويبتلى به بعض النّاس فيدخلون في وَحل الشرك، وشبكة الباطل من حيث يظنون أنهم لن يقعوا في هذه الهوّة السّحيقة، إنه ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءْ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرْ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقْ﴾ [الحج:31] لا يشعر أنّه قد وقع في هذه الهوّة السّحيقة والعياذ بالله فتأتي هذه القاعدة لتجلّي هذا الأمر.
ولهذا ينبغي أن نُرعي هذه القاعدة بالنا واهتمامنا، وأن نحسن فهمها و ضبطها؛ لأنّها مهمّة جدّا في هذا الباب.
يقول -رحمه الله- في القاعدة الثّالثة: "أن النبي ﷺ ظهر على أُناس متفرّقين في عبادتهم"
ما معنى متفرّقين في عبادتهم؟ أي لم تكن عباداتهم مختصّة بمعبودات معيّنة مثل الأحجار، أو الأصنام، لم تكن عبادتهم مختصّة بذلك أبداً، بل كانوا متفرقين في عبادتهم يعبدون أشياء كثيرة جدّاً ماهي هذه الأشياء .
فصّل الشيخ -رحمه الله- ثمّ ذكر على كلّ ما ذكره من تفصيل، ذكرَ الدّليل عليه من القرآن:
قال: "منهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء والصّالحين، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار، ومنهم من يعبد الشّمس والقمر"
إذن النّبيّ ﷺ بُعث في أقوام يُشركون، وشركهم ليس منحصرًا في نوعّ معيّن من الشرك، كعبادة الأصنام، بل إن شرك مَن بُعث فيهم ﷺ شركٌ متنوع، والأبوابَ التي سلكها هؤلاء المشركون أبوابٌ متفرّقة، منهم من يعبد الملائكة، منهم من يعبد الأنبياء، منهم من يعبد الأولياء والصّالحين، منهم من يعبد الأشجار والأحجار والأضرحة، ونحو ذلك وكلّ هؤلاء ظهر عليهم النّبيّ ﷺ معلناً دعوة التوحيد والدّعوة إلى الإخلاص لله -تبارك وتعالى- ونبذ الشّرك و إطّراحِهِ أياً كانت صفته وكان نوعه.
فهذه القاعدة تأتي جوابا و إزالة لتلك الشّبهة التي قد يروّجها بعض أهل الباطل وتقرير القاعدة، ثم يأتي المصنّف -رحمه الله- على الدليل لكلّ ذلك من كتاب الله -عزّ وجلّ-:
قال -رحمه الله- والدّليل قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةً وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله﴾
هذا فيه أوّلاً استشهاد لقول المصنّف -رحمه الله- "وقاتلهم رسول الله" أي أجمعين بأنواع الشّرك المختلفة التي كانوا عليها، فهؤلاء كلّهم قاتلهم لم يفرّق ﷺ بين من عبد حجراً، أو عبد نبيّاً كعيسى -عليه الصلاة والسلام- أوعبد ملكاً من الملائكة كجبريل أو غيره من الملائكة -عليهم السّلام- لم يُفرق بين هؤلاء ولا هؤلاء، كلهم يشملهم قول الله -تبارك وتعالى-: ﴿قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةً وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله﴾
قاتلهم النبيّ ﷺ أجمعين، دعاهم إلى هذا الإسلام و بعث الدّعاة، وأرسل البعوث وأرسل الرّسل ودعا هؤلاء، دعا الذين يعبدون الملائكة، ودعا الذين يعبدون النّجوم، ودعا الذين يعبدون الأنبياء، ودعا الذين يعبدون الأصنام، كلّ أولئك دعاهم النبيّ ﷺ إلى نبذ هذا الشرك و إلى إخلاص العبادة لله -تبارك وتعالى-.
ثمّ بدأ يسوق الأدلّة دليلاً دليلاً على ما ذكره سابقا من تفرّق المشركين، وتنوّع شركهم.
قال: ودليل الشّمس والقمر، قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ۚ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾
لا تسجدوا للشمس ولا للقمر؛ لأنّ هناك من كان يعبد الشمس، ومن يعبد القمر.
بل إنّ من رعاية نبيّنا ﷺ للتوحيد وحفاظه لجنابه وسَدِّه لذرائعِ الشرك، نهى أمّة الإسلام أن يُصلّوا لله -تبارك وتعالى- مُخلصين عند وقت طلوع الشمس ووقت غروبها؛ لأنّ هذا الوقت كان عبّاد الشّمس يتحرّون عبادتها فيه؛ ولهذا جاء النهي الغليظ والمؤكّد عن نبينا ﷺ من أن نصلي لله -تبارك وتعالى- مخلصين في هذين الوقتين، وذكر ﷺ أنّ الشمس تطلع بين قرني شيطان، وهذا فيه أنّ الشّيطان له فتنة في هذا الوقت لصرف القلوب عن التوحيد إلى الشرك والتعلق بهذه المخلوقات الكبيرة البديعة العجيبة العظيمة التي خلقها الله -تبارك وتعالى-.
عندما تضعف بعضُ القلوبِ عن راسخِ الإيمان وعميق التوحيد، قد تتعلّق بمثل هذه المخلوقات الكبار، وتلجأ إليها، فتُدْهِشها الشمس بغروبها وطلوعها؛ فتتوجه إليها بحاجاتها ورغباتها؛ فقطع النبي ﷺ الطريقَ، وسدَّ ذريعة الشرك، وأيضا ربأ ﷺ بالأمة أن يكون فيها شيء من المشابهة -ولو في الصورة الظاهرة- لعبدة الشمس والقمر؛ فنهى ﷺ أن تتحرى العبادة في هذين الوقتين وقت طلوع الشمس، ووقت غروبها، ولوكان الإنسان لا يقصد بعبادته إلا وجه الله مخلصا له، وجاء عنه في ذلك أحاديث كثيرة، لماذا؟ كُل ذلك محافظةً على التوحيد، وصيانة لجنابه، وسدّ للذرائع التي تؤدي إلى الشرك بالله تعالى.
إذًا هذا دليل ساقه المصنف من القرآن الكريم شاهدا على أنَّ مَن بعث فيهم ﷺ كان منهم من شركه بالله عبادة للشمس وللقمر.
ما الدليل على أن منهم من كان يعبد الملائكة؟
قال: قول الله -تبارك وتعالى-: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾
أي من دون الله -تبارك وتعالى- فهذا شاهد ودليل على أن من الناس من اتخذ من الملائكة أرباباً، وعبدوا الملائكة مع الله -تبارك وتعالى- ودعوهم وسألوهم، وعرضوا عليهم حاجاتهم وطلباتهم، فكان من الناس من عبد الملائكة، والملائكة جند مكرمون، وعباد مُسخرون، لا يستحقون من العبادة ولا مقدار ذرة.
ولهذا في سياق إبطال الشرك في القرآن الكريم في سورة سبأ ذكر الله -عز وجل- ضعف الملائكة مبيناً -جلَّ وعلا- بذلك أن الملائكة مع ضخامة أجسامها، وقوتها، وعِظم قدرتها التي منحها الله -تبارك وتعالى- إياها هي ضعيفة مخلوقة مربوبة لا تستحق من العبادة شيئًا، وتأمَّل هذا المعنى العظيم في الآيات الواردة لإبطال الشرك في (سورة سبأ) وهي قول الله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ○ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ [سبأ:22-23]
يفسِّر هذه الآية قول نبينا ﷺ في الحديث الصحيح: إذا تكلم الله بالوحي خرَّت الملائكة صَعِقَةً؛ خَضَعانًا لقوله [5] هذه الملائكة الضخمة الأجسام العظيمة القوة والقدرة إذا تكلم الله بالوحي خرَّت صَعِقَةً يُغشى عليها، ويُغمى عليها خَضعاناً لقوله -تبارك وتعالى- فهي مخلوقة ضعيفة مربوبة لله، مسخرة لله، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، ولا يستحقون من العبادة أي شيء، ولهذا قال الله -عزَّ وجل- في شأن الملائكة قال: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء:29] الملائكة لا يقولون ذلك، الملائكة عباد مكرمون يعبدون الله -عز وجل- ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء:20] ﴿لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم:6] هذا شأن الملائكة، وقد وُجد في الناس من عبدهم، ومن توجه إليهم في طلباته ورغباته، وجعلهم واسطةً بينهم وبين الله -تبارك وتعالى- في عرض حاجاته فبُعث النبي ﷺ لإبطال هذا الشرك: اتخاذ الملائكة أربابا وأندادا وشركاء لله -تبارك وتعالى- في العبادة.
ثم ذكر -رحمه الله تعالى- دليل الأنبياء، أي الدليل على أن من المشركين الذين بعث فيهم ﷺ من كان يعبد الأنبياء؛ فذكر:
قول الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾
إذًا كان من المشركين الذين بُعث فيهم ﷺ من كان يعبد الأنبياء من دون الله -عز وجل- مثل من كانوا يعبدون عيسى، ويتوجهون إليه بالدعاء والطلب والرغبات، ويعبدون أمَّه، وأمُّه ليست نبيًّا، وإنما هي صالحة من الصالحات، ومن خيار نساء العالمين، فكانوا يعبدون الأنبياء، ويعبدون الصالحين، الأنبياء مثل عيسى، والصالحين مثل أُمَّهُ، ﴿قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ [المائدة 73] جعلوهم ثلاثة المستحقين للعبادة (الله ومريم وعيسى)، وعبدوا هؤلاء الثلاثة كلهم عبدوا الله وعبدوا معه عيسى وعبدوا معه أُمَّهُ.
ثم قال -رحمه الله-:
ودليل الصّالحين قول الله -تبارك وتعالى-: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾
هذه الآية دليل واضح على أن من بُعث فيهم ﷺ منهم من كان يعبد الصالحين من دون الله -عز وجل- وذلك أن معنى الآية وهي ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾ تتعلّق ببيان حال طائفة من المشركين، واقرأ قبل ذلك الآية التي قبلها، وهي قول الله -عز وجل-: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا﴾ [الإسراء:56] ﴿أولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ أي أولَئِكَ الذين يدعوهم هؤلاء المشركون المتخذون الأنداد، هم قَومٌ هداهم الله -عز وجل- وعبدوا الله وأخلصوا الدين له -جل وعلا-: ﴿يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ وهذه نزلت في قوم من المشركين كانوا يعبدون نفراً من الصالحين مثل عُزَيْر، ومثل عيسى، فالله ينهاهم عن هذا الشرك بقوله -سبحانه-: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾ أي هؤلاء الذين تدعونهم وتعبدونهم هم أنفسهم عِبادٌ لله خاضعون لله متذللون بين يدي الله -تبارك وتعالى- ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ [الأعراف:194] هم عِبادٌ لله خاضعون لله -عز وجل-، عِبادٌ لإلوهيته، مُطيعون له، قائِمونَ بِعبَادته، خاضعون له، يرجون رحمته ويخافون عذابه؛ فكيف تتوجهون إليهم؟!
فالسياق جاء في إنكار الشرك على قوم من المشركين كانوا يعبدون نفراً من الصالحين، سواء نفراً من الصالحين من الإنس على قول المفسرين، أو نفراً من الصالحين من الجن؛ لأن الآية قيل في بعض أقوال أهل العلم أنها نزلت في قوم من الإنس كانوا يعبدون نفراً من الجن فأسلم الجِنِّيون و بقي الإنسِيُّون على عبادتهم؛ فأنكر الله عليهم هذا الشرك قائلاً لهم: إن هؤلاء الجِنيُّون الذين تعبدونهم من دون الله أسلموا وأخلصوا العبادة لله ويرجون رحمة الله ويخافون عذابه وأنتم لاتزلون مُقيمون على عبادتهم!
إذا الآية واضحة في إنكار شرك من كان شركه عبادة الصالحين والأولياء، يُقال لمن عبد وليًّا، أوعبد صالحاً، يقال له إن هذا الذي تعبد وتلجِئ إليه هو نفسه عبدٌ لله، يرجو الله، ويطمع في مغفرةِ الله ورحمته، وإن كان مات فإن هذه الأمور رجاء الرحمة والعبادة وابتغاء الوسيلة انقطعت بموته، "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" [6]، لا يستطيع أن يقوم بعبادة، ولا يستطيع أن يقوم بدعاء، ولا يستطيع أن يقوم برجاء، أو بخوف أو بأي أمر من الأمور التي هي مجال الإنسان للقيام بها في حياته الدُّنيا، أما إذا مات انقطع عمله، لا يستطيع أن يدعو لنفسه ولا يستطيع أن يدعو لغيره؛ ولهذا قال ﷺ كما في صحيح البخاري لأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قال: "إن كان ذاك وأنا حي استغفرتُ لك" [7] يعني وأنا على قيد الحياة استغفرتُ لك، أما بعد الموت لا يستغفر هو ﷺ لأحد، ولا أيضاً غيره من الذين توفاهم الله -عز وجل- يستغفرون لأحد.
أما ما يستدل به بعض الناس من أن النّبي ﷺ قال: "تعرض علي أعمالكم وأنا ميت حسنها وسيئها فإذا رأيت حسنها حمدت الله و إذا رأيت سيئها استغفرت الله لكم" [8] هذا حديث غير صحيح، فيَستدل به بعض الناس، ويتركون الحديث الذي هو في صحيح البخاري الذي تَقدَّم ذِكرُه.
ولهذا الصحابة بعد موته قالوا كما جاء عن عمر: "اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا وَالآن نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا" [9] والمراد الدعاء، "قم يا العباس فادع الله لنا"، في زمن النبي ﷺ ما كانوا يتوسلون بالعباس أو بغيره، كانوا يتوسلون بدعاء النبي ﷺ، يدعو لهم هو ﷺ ويُؤَمِّنُون على دعائه، أما بعد موته انقطع هذا الأمر. الشاهد أن هذا دليل الصالحين.
علامة مرجعية (2)
ما دليل الأشجار والأحجار؟
قال: قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالعُزَّى ○ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾
هذه معبودات كان يعبدها المشركون، اللاّت والعُزّى، ومناة الثالثة الأخرى.
اللات: هذه صخرة، وقيل قبر، جاء عن ابن عباس وغيره برجل كان يلتُّ السويق [10] أي يعجنه ويهيِّئه ويخبزه ويجهزه ضِيافةً وقِرى للحُجَّاج الذين يتوافدون إلى مكة، فكان معروفاً بذلك، فلما مات بنوا على قبره، وعبدوه، أخذوا يجعلونه واسطة: قالوا هذا رجل معروف بيننا بهذا الكرم وهذه الضيافة فعبدوا قبره، وقيل عبدوا الصخرة التي كان يعجن عليها السُّويق؛ قالوا هذه صخرة فاضلة سنوات طويلة يُعجن عليها السويق ويقدم للحجاج ضيافة لهم، إذاً هذه الصخرة فاضلة مميزة لها خاصية؛ فما أجمل أن نجعلها واسطة بيننا و بين الله! فجعلوها واسطة، وقيل أنهم جعلوا قبره واسطة بينهم و بين الله -عز وجلّ- يأتون عند القبر ويبكون ويعرضون الحاجات والرغبات، ويتحرَّون الدعاء عند قبره، أو عند هذه الصخرة.
والعُزّى:شجرة كان يقصدها المشركون، وكان يزيد الشِّرك والتَّعلق بهذه الشجرة أنَّ جنِّيَّةً كانت مختفية، و إذا جاؤوا عند هذه الشجرة خاطبتهم الجِنِّيَّة؛ فيُخدعون بذلك لأن الشَّجر لا يُعرف أنَّه يخاطب النَّاس، فيُخدعون بذلك ويُستدرجون، فتخاطبهم هذه الجِنِّيَّة وتذكر لهم أمورًا، وربما سألوها عن مفقود أو ضائع فأشارت إلى مكانه، أو دلتهم على موضعه، أونحو ذلك؛ ففُتنوا؛ فصاروا يتوافدون عليها من الأنحاء العديدة، يعبدون هذه الشجرة حتَّى بُعث النبي ﷺ خالد بن الوليد، فقطع الشجرة وقتل الجِنِّيَّة، كما جاء في كتب السيرة والأخبار. [11]
فالعُزّى شجرة كان يعبدها المشركون، ولايزال هذا الشرك يوجد فمن الناس يتعلقون بالأشجار ويعتقدون أنها أشجار مباركة؛ ولهذا يذهبون يعلقون عليها الخيوط، يتمسحون بها، يضع صدره على الشجرة يطلب منها بركة، يطوف على الشجرة، كان قديماً -وقد أدرك شيئًا من ذلك ورآه المصنف- كانوا يطوفون على شجرة تذهب إليها المرأة التي لا تلد وتطوف على الشجرة، وتقول: "يا فحل الفحول أريد ولدا قبل الحول" تنادي الشجرة، ما تنجب أخذت سنوات ما تنجب، فيقول لها النساء فيه شجرة في المكان الفلاني مباركة، اذهبي وطوفي بها أشواطا واطلبي منها، شجرة مباركة، وربَّما قالوا لها: فلانة جرَّبت، وفلانة فعلت. وهكذا يُستدرج الناس إلى الشرك والباطل والعياذ بالله. فكن يذهبن إلى تلك الشجرة ويطفن عليها، ويقلنَ:"يا فحل الفحول أريد ولدا قبل الحول"، وقد قال ﷺ في الحديث الصحيح: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تَضْطَرِبَ ألَياتُ نِساءِ دَوْسٍ علَى ذِي الخَلَصَةِ" [12] (ذي الخلصة): وثن من الأوثان، (تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ): أي تضرب إلياتهن بعضاً من شدة تزاحمهن على الطواف على ذي الخَلَصَة، وهذا فيه إشارة إلى كثرة النساء الطائفات على ذي الخلصة، وقال ﷺ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَعْبُدَ فِئَامٌ مِنْ أُمَّتِي الأَوْثَان" [13] والأحاديث في هذا الباب كثيرة وثابتة عن نبيِّنا ﷺ.
وقال ﷺ: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ" انتبه هنا:(لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَان قَبْلَكُمْ) منْ قَبلنا فيهم من عبَد الملائكة، فيمن عبَد الأولياء، وفيمن عبَد الأشجار، وفيمن عبَد الصالحين، ونبيّنا قال: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلتُموه" [14] فإذًا هذه أمور خطيرة جدًا.
عندما قال لنا النبي ﷺ: "لتَتبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ"؛ هل قالها لنا مجرد معلومة نسمعها ونعرفها؟ أو من أجل أن نحذر ونحطاط لأنفسنا ونخاف من هذا الباطل الذي كان عليه من قبلنا، ونحذر على المجانبة منه والبعد عنه؟
خليل الرحمن إبراهيم -عليه السلام- قال في دعائه: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ○ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [إبراهيم:35-36]
مناة: هذا أيضا حجر وصنم من الأصنام، كان يعبده أهل الجاهلية وكان بين مكّة والمدينة.
ثم ختم بحديث أبي واقد الليثي، وهذا الحديث عظيم جدًّا في هذا الباب ويبيّن لنا هذا الحديث خطورة حال الإنسان عندما يكون حديث عهد بإسلام، أو تكون معلوماته الإسلامية ضعيفة، أو يكون نشأ في مجتمع تكثر فيه الجاهلية؛ فهنا في خطورة يبينها لنا ويجلِّيها لنا هذا الحديث، قال أبو واقد الليثي: "خرجنا مع النبي ﷺ إلى حُنين ونحنُ حدثاء عهدٍ بكفر.." (هذا اعتذار قدّمه -رضي الله عنه- من المقالة التي قالوها: "ونحنُ حدثاء عهدٍ بكفر" يعني عهدنا بالكفر كان قريباً)، والذي على الكفر من وقت قريب معلوماته عن الإسلام وعن التوحيد، وعن تفاصيل الشرع تكون ضعيفة، وربما في الوقت نفسه تكون أيضا بعض الأمور التي كان عليها في الجاهلية لم يتبين له ولم يظهر له أنها مصادمة للإسلام الذي اعتنقه، ومثل هذا الأمر مَن ينشأ في مجتمعات تكثر فيها الجاهلية ويكثر فيها دعاة الضلال وأئمة الباطل، ربما لا يعرف بعض الأمور، ولا يفهمها ولا يدركها، ويقع في الشرك والضلال من حيث يظن أنه على التوحيد والإسلام.
يقول أبو واقد: "خرجنا مع النبي ﷺ إلى حُنين" انظر من هم هؤلاء الرجال، هؤلاء الرجال خرجوا مع النبي ﷺ بائعين أنفسهم في سبيل الله معهم السيوف يقاتلون، منهم من سيُقتل ويموت في سبيل الله، خرجوا مقاتلين في سبيل الله -تبارك وتعالى- ثم يقولون هذه المقالة التي بُيّنت في الحديث: "ونحنُ حدثاء عهدٍ بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم" جاء في بعض الروايات: "فمررنا بسدرة" وهم في الطريق، مرّوا بسدرة أي مرّوا بشجرة للمشركين، ماذا يفعلون عندها؟ قال: "يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم" هذا نوع من الشرك؛ الشرك من أنواعه: العكوف عند القبر أو عند الشجرة، أو عند المكان الذي يُعبد ويُقصد ويُتوجه إليه، يَعكُف عنده أي يبقى مدة طويلة ساكناً، خاضعاً، متذللاً راهباً، هذه عبادة ﴿وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾ [البقرة:187] العكوف عبادة لله -تبارك وتعالى-، فيعكفون عندها، يبقى قائماً ساعة ساعتين أقل أو أكثر، ساكناً خاشعاً، ربما لا يتكلم بكلمة فقط مجرد وقوف، وهو يعتقد في قرارة نفسه أن عكوفه هذا يجلب له بركة؛ لأن هذه الشجرة مباركة، فبركتها تنعكس عليه، وتنجذب إليه، ويعود إليه نصيب منها فيعكفون عندها، هُم بأشخاصهم، وأيضا ينوطون بها أسلحتهم أي يعلقون أسلحتهم، لأنهم يعتقدون أنَّ السِّلاح إذا عُلق على هذه الشجرة المباركة بزعمهم، بورك السلاح، وأصبح قويًّا في القتال، فكانوا يعتقدون هذه العقائد. يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها "ذات أنواط"، سموها بهذا الاسم لكثرة ما يعلقون عليها من أسلحتهم؛ رجاء البركة وطلب البركة.
قال: "فمررنا بسدرة" أي مرُّوا بسدرة أخرى غير تلك، فقلنا: "يا رسول الله اجعل لنا ذاتَ أنواط كما لهم ذاتُ أنواط" يعني خصّص لنا شجرة معينة نمارس عندها مثل هذه الممارسة، نعكف ونعلق السلاح؛ من أجل طلب البركة، فقال النبي ﷺ: "الله أكبر إنها السُّنَنَ" [1] ، في رواية قال: "سبحان الله، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت قوم موسى لموسى: ﴿اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾" [1أ] ثم قال: "لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم شبراً شبراً، ذراعاً ذراعاً، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" [14]، انظر يا أخي هذا النصح العظيم والتحذير البالغ من نبينا ﷺ وخذ نفسك مأخذ الحزم والحيطة والحذر.
بل جاء عنه ﷺ في بعض الروايات في غير هذا الحديث: "حتى لو وُجد فيهم من يأتي أمّه علانية لوُجد في أمّتي من يأتي أمه علانية".
يجب على الإنسان أن يحذر خاصة في زماننا هذا، انفتح على الناس انفتاحٌ عجيب حال المجتمعات الكافرة وأمم الكفر، وأصبح الناس من خلال القنوات الفضائية، ومن خلال شبكة الانترنت، والإنسان جالس في بيته والمرأة جالسة في بيتها ترى وثنية الوثنيين، وشرك المشركين وضلال المضلين، وشُبَهَ المبطلين، ويكون هذا المسكين الذي ينظر لهذا كله، بضاعته الشرعية وعلمه بالتوحيد علم ضعيف محدود، ثم يرجو لنفسه سلامة؟!
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تمشي على اليبس
ألقـــاه في اليـــــمّ مكتــــــــــوفا وقـــــال *** له إيـــــــاك إيـــــــــاك أن تبتــــــــــل بالماء
فالشاهد أنّ الأمر جدّ خطير، وأن الأمر كما قرر الشيخ -رحمة الله عليه- أن الشرك الذي كان عليه المشركين في زمن النبي ﷺ ليس عبادة أصنام فقط، وبعض الناس عندما يقرأ الآيات التي فيها تحذير من الشرك ينصبّ في ذهنه فقط اللات والعزة ومناة -وهذا من الشبه التي أُدرجت على الناس-، ويقول الحمد لله هذه أصنام ليست موجودة وحُطِّمت في زمن النبي ﷺ ولا يوجد شرك، بل ورد عن بعض من أئمة الضلال أنه قال: أمّة محمد إلى قيام الساعة لن يوجد فيها شرك، هذا قيل وكُتب في بعض الكتب ولُبّس على بعض الجهال فيه، وأصبح بعض الجهال يمارسون ممارسات من الشرك ويقول لهم هؤلاء بأن أمة محمد معصومة من الشرك، وربما استدلوا ببعض الأحاديث ووضعوها في غير بابها، مثل حديث: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِى جَزِيرَةِ الْعَرب" [15] يستدلون بهذا الحديث ويتركون أحاديث محكمة صريحة بأن عبادة الأوثان ستوجد مثل: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَعْبُدَ فِئَامٌ مِنْ أُمَّتِي الأَوْثَان" [13] هل أوضح من هذا شيء؟ ومثل قوله ﷺ: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبراً..." [14] ونحن عرفنا من كان قبلها بهذه الآيات البيّنات، فيهم من عبَد الأنبياء وفيهم من عبد الصالحين وفيهم من عبد الملائكة.
ولهذا تقريراً لهذا الأمر أعيد عليكم.
لو قيل لك هل سيوجد في أمة النبي أي في هذه الأمة من سيعبد الملائكة، وسيعبد الأنبياء، وسيعبد الصالحين، وسيعبد الأشجار، وسيعبد الشمس، وسيعبد القمر، هل سيوجد من سيفعل ذلك؟ ماذا تقول؟ يوجد، لدليلين:
الدليل الأول: أن هذه الآيات بينات في القرآن الكريم أن هذه الممارسات كانت موجودة فيمن كان قبلنا.
الدليل الثاني: أن نبينا ﷺ قال: "لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم شبرا شبرا، ذراعا ذراعا حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" [14]
ولا يعني وجود ذلك أي وجوده في الأمة بأسرها، بل يوجد في أفراد من الناس وآحاد من الناس، وبعض من يَضِلُّون سواء السبيل، يوجد فيهم من ينحرف هذا الانحراف.
فإذا علمت هذا العلم وفهمت هذا الفهم ودريت هذه الدراية اتقِ الله -عز وجلّ- واحفظ توحيدك، وصن إيمانك، وابعد نفسك عن الشرك. وأسأله -تبارك وتعالى- أن يثبّتك على التوحيد وأن يعيذك من الشرك وأن يُحييك مسلمًا وأن يتوفاك مؤمنًا فإنه -تبارك وتعالى- وحده ولي التوفيق والسداد-.
علامة مرجعية (3)
المتن (الجزء 6 من 6)
القاعدة الرابعة
أنّ مشركي زمانِنا أغلظُ شِركًا مِن الأوّلِين؛ لأنّ الأوّلين يُشركون في الرّخاء ويُخلِصون في الشّدّة، ومشركوا زمانِنا شركُهم دائمٌ في الرّخاء وفي الشّدّة، و الدّليل قوله تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ [العنكبوت:65]
تمّت وصلّى الله على مُحَمَّدٍ و على آله وصحبه وسلّم.
ثمّ خَتَمَ هذه القواعدَ الأربعة بهذه القاعدةِ العظيمة المهمّة حقيقة، وهي قوله -رحمه الله- أنّ مشركي زمانِنا أغلظ شركًا من الأوّلِين، لأنّ الأوّلِين يشركون في الرّخاء و يخلصون في الشّدّة. أي وقت الصّحّة والعافية والأمن والرّاحة والطّمأنينة ونحو ذلك يشركون، يعبدون مع الله -تبارك وتعالى- الأحجارَ والأشجارَ و الملائكةَ... إلخ، أمّا وقت الشّدّة عندما تشتدّ الأمورُ وتعظُم الكُربات لا يعبدون شيئًا من تلك المعبودات بل يتوجّهون إلى الله -تبارك وتعالى- وحدَه مخلصين له الدّين، هكذا كانوا، والدليل قول الله تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ هذه حال المُشْرِكُون الأُوَل.
إذا ركبوا في الفلك، وأتَت الرّياح العاتية وتَلاطَمتِ الأمواج، وأدركهم الغرق وعَظُمَ فيهم الخطب، أخلصوا الدّين لله فقط يقولون ياربّ ياربّ، لا يناجون اللات، ولا يقولون يا هُبل، و لا غيرها ممّا كانوا يدعونها في حال الرّخاء، فقط يقولون يا ربّ يا ربّ يا ربّ، مخلصين له الدّين، إخلاصٌ تامٌ في التّوجُّهِ والسّؤال والطّلب، الوسائط كلّها تسقط وتذهب ولا يتعلّقون بشيءٍ منها، يخلصون الدّين لله.
﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ يعني إذا أمنوا من البحر، ومشاكل الغرق، ووطأت أقدامهم البرّ؛ رجعوا للشّرك، بدؤوا ينادون اللّات والعُزّى... إلخ، وفي حال الشِّدَّةِ يُخلِصُون لله -تبارك وتعالى-.
ولهذا اقرأ في هذا السّياق بيان الله -عزّ وجلّ- لهؤلاء أنّ الله قادرٌ عليهم في حال كونهم في البحر، و في حال كونهم في البرّ، الأمر سواء في قدرته -جلّ وعلا-، هو قادرٌ على إهلاكهم برًّا وبحرًا، يُقال للمُشرِك إذا كنت تؤمن أنّه لا ينجّيك في البحر إلاّ الله، فكذلك لا ينجّيك في البرّ إلاّ الله؛ لأنّ الله قادرٌ عليك في الحَالَيْنِ.
فماذا تُغني عنك هذه الأصنام من الله شيئا سواء كنت في البرّ أو البحر؟ ولهذا اقرأ قول الله -عزّ وجلّ-: ﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ○ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا﴾ [الإسراء:66-67] هذا بيان حال المشركين.
قوله: ﴿ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ﴾ أي ذهب كلّ من تتعلّقون به و تدعون وترجون ﴿إِلَّا إِيَّاهُ﴾ إلاّ الله، تَدُلُّ هَذه الآية على أنّ المشركين كانوا يَعبُدون الله ويعبدون معه غيره، لكنّهم في البحر كلّ من يعبدونه من دون الله يذهب عن قلوبهم وعن أفكارهم وعن توجّهاتهم فلا يعبدون إلاّ الله -تبارك وتعالى- وحده مخلصين له الدّين.
﴿فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا﴾ انتبه: ﴿أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ﴾ [الإسراء:68] الآن وطأت أقدامكم البرّ، وأحسستم بالسّلامة و النّجاة من كربات وشدّة البحر، ورجعتم إلى الشّرك، هل أمنتم أن يخسف الله بكم جانب البرّ؟ ﴿أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾ [الإسراء:68] هل تأمنون من ذلك؟
أي وأنتم في البرّ، فيه احتمالين:
الأوّل: أن يخسف الله بكم جانب البرّ، الأرض التي تَحْتَكُم تنخسف وتسقطون في هُوَّةٍ لا يعلم مداها إلاّ الله، وتنطبق عليكم الأرض، ولا يُرى لكم أثر بعدها، الله قادر على كلّ شيء وقد أخبر أنّه عاقب من عاقب بشيءٍ من ذلك: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ﴾ [العنكبوت40] هل تأمنون من ذلك؟
الثاني: ﴿أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾ أي وأنتم في البرّ، هل تأمنون أنّ يبعث الله -عزّ وجلّ- ريحاً شديدة قويّة تحمل الحصباء فيهلككم وأنتم في البرّ؟
أيضًا احتمال ثالث ذكره الله -عزّ وجلّ-: ﴿أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى﴾ أي في البحر ﴿فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ﴾ [الإسراء: 69]
هذه احتمالات ثلاث، ذكرها الله لهم:
يُحتمل أن تأتيكم العقوبة في البرّ خسفًا
ويُحتمل أن تأتيكم العقوبة في البرّ ريحًا عاصفة تحمل الحصباء تهلككم،
ويَحتمل أيضًا أن يعيدكم الله إلى البحر فيما بعد لحاجة من حاجاتكم، ويرسل عليكم وأنتم في البحر ﴿قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ﴾.
إذًا من تخلصون له في الشّدّة وتشركون معه في الرّخاء، حقّه والواجب عليكم أن تكونوا مخلصين له في الرّخاء والشّدّة؛ لأنّكم لستم في أَمَنة من عقوبته ونقمته لا في البرّ ولا في البحر، كان المشركون الأول يشركون في الرّخاء ويخلصون في الشّدّة.
وأذكر الآن قِصَّة عكرمة بن أبي جهل وقد كان من المشركين، كانت هذه قصة سبب دخوله في الإسلام والتحاقه بالنّبيّ ﷺ: كانوا في البحر وأدركهم الغرق، وعاينوا الموت؛ فأخلص النّاس في ذلك الموقف لله فقال عكرمة بن أبي جهل: "لئن كان لا يخلّصني من هذا الكرب في البحر إلاّ الله فلا يخلّصني منه في البرّ إلاّ الله" ثمّ قال: "حقٌّ عليّ لئن كتب الله لي نجاةً؛ لأذهبنّ إلى محمّد و لأبايعنّه على الإسلام" وقد فعل ذلك، نجّاه الله وأسلم، فكانت هذه عظة له وعبرةً في دخوله في الإسلام ورجوعه إلى الدّين. [16]
ويقول المصنّف -رحمه الله-: "أمّا المشركون في زماننا فكان حالهم أنّهم يشركون في الرّخاء وفي الشّدّة. أي أنّ حالهم عندما يركبون في الفلك و يعاينون شدّة الغرق، ومقاربة الموت، يفزعون إلى المعبودات الّتي تعلّقت قلوبهم بها، ففي مثل هذه الحال تراهم يقولون: "مدد يا فلان، أدركنا يا فلان، إن لم تلحقنا في هذا، مَن يلحقنا؟" يخاطبون أموات، يخاطبون مقبورين: "أنا عائذ بك، أنا ملتجِئ إليك، أنا في جنابك، أنا أنا.. إلخ"، في الشّدّة يفعلون ذلك، وهذا شِركٌ ما كان يفعله المشركون الأُوَل في حال الشّدّة؛ في الشّدّة كانوا يخلصون.
قد تتساءل أيّها الأخ الكريم، قد تتساءل، لماذا هؤلاء يشركون في الرّخاء وفي الشّدّة؟
أقول لك إنّ من وراء ذلك أئمّة الضّلال، وشيوخ الباطل، غرسوا في نفوس هؤلاء التّعلّق بهم وقالوا لهم كما في كتب هؤلاء واضحًا، قالوا لهم: "إذا أدركتك الكُربة وعاينت الشّدّة في أيّ مكانٍ تكون؛ اهتف باسمي، اهتف باسمي؛ ستراني بجنبك آخذ بيدك، حتّى بعد موتي لا تنسوا، حتّى بعد موتي تنادي باسمي أخرج إليك، وآخذ بيدك"، ويقولون في كتب هؤلاء يعدّدون من كراماتهم، يكون أنّ من كراماته أنّه كان ينقذ السّفن في البحر من الغرق، ينادون باسمه فينقذ السّفن في البحر، حتّى في أحد الكتب المشهورة في بيان طبقات هؤلاء الشّيوخ -شيوخ الضّلال- ذكروا أنّ واحدًا منهم يعدّدون شيئًا من كراماته أنّه كان والعياذ بالله يمسك ويُطلب أن تُمسك له الحمارة ليمارس معها الممارسة الباطلة، ثمّ بعضهم قال له في ذلك: لماذا هذه الممارسة؟ قال هذه كرامة، رتقتُ بهذا العمل خرق سفينةٍ كان يغرق أهلها في البحر!
والعوامّ يسمعون مثل هذه القصص ويصدّقونها، وترسخ في قلوبهم، ثمّ إذا ركبوا في الفلك يغلظ شركهم على شرك المشركين الأُوَل، فتجده ينادي شيخه ويهتف باسمه إلى أن يغرق، إلى أن يموت -والعياذ بالله- على الشّرك بالله. نسأل الله العافية والسّلامة، والله أنّها حال مؤلمة جدًّا ومؤسفة، تجد المسكين يغرق ويموت وهو يهتف باسم شيخه إلى أن تفارق روحه الحياة وهو لا يزال يقول أنّ شيخه الآن يأتي، الآن يدركه الآن ينقذه وهو ينادي باسمه إلى أن يغرق، لا يقول يا الله، يموت مشركًا لا يعبد الله، ولا يخلص لله حتّى في شدّته.
وهذه المسائل، والتّوسّع فيها، والرّدّ على الشُبَه الّتي يطرحها أهل الشّرك والباطل، توسّع فيها -رحمه الله- في كتابٍ له معروف، اسمه "كشف الشّبهات" كتاب مهمّ جدًّا لا يستغني عنه طالب علم، وذكر فيه هذه القواعد مفصّلة تفصيلاً أوسع من هنا، وأيضًا ذكر أصول أخرى، وذكر أيضًا تقعيدات و تأصيلات يحتاج إليها طالب العلم في كشف شُبُهَات أهل الشّرك والباطل، ثمّ بعد ذلك ذكر شبهات تفصيليّة يَستدِلُّ بها هؤلاء.
فنسأل الله -عزّ وجلّ- أن يجزي هذا الإمام خيرَ الجزاء على هذا النّصح العظيم والبيان الموثّق والإيضاح للتّوحيد و التّحذير من الشّرك الّذي كان هو شغله الشّاغل -رحمة الله عليه- في حياته؛ فنفع الله -عزّ وجلّ- بدعوته نفعًا عظيمًا، ولا يزال النّاس مع مرّ الأيّام يستفيدون من هذه الدّعوة ويستفيدون من هذا النّصح، ويستفيدون من هذه الآيات والحجج و البيّنات الّتي جمعها -رحمه الله- فأفاد من ذلك، واهتدى خلقٌ كثير، كَتَبَ الله -عزّ وجلّ- لهم الهداية.
وختم -رحمه الله تعالى- الرّسالة بقوله: "تمّت، وصلّى الله على مُحمّدٍ و آله وصحبه وسلّم" ويوجد في بعض المجتمعات مَن يصدّون النّاس عن دعوته حتّى إنّ بعضَهم ذكر لنا وقيل له في تحذيرٍ من الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب -رحمه الله-: هو لا يصلّي على النّبيّ، ويأتي خائفًا مسكينًا؛ مَن يريد أن يسمع لشخصٍ لا يصلّي على النّبيّ ﷺ؟ فيأتي خائفًا، و يسدّ أذنيه، ويحذر غاية الحذر؛ لأنّه لا يمكن أن يسمع لشخصٍ لا يصلّي على النّبيّ ﷺ.
فجزاه الله خيرًا على ما قدّم، وعلى درجاته، ورفع موازينه في علّيين وجمعنا به أجمعين، وبالصّالحين من عباده وبأنبيائه وأوليائه في جنّات النّعيم، وهدانا صراطه المستقيم، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا مُحَمّد وآله وصحبه أجمعين.