مصدر
﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾
[الحشر:10]
فائدة
قوله – عز وجل -: ﴿والذين جاءوا من بعدهم﴾ يعني التابعين وهم الذين يَجِيئون بعد المُهَاجِرينَ والأنصارِ إلى يَومِ القِيامة، ثُم ذُكِر أنَّهُم يَدْعُونَ لِأنْفُسِهِم ولمن سَبَقَهُم بالإيمان والمغفرة فقال: ﴿يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا﴾ غِشّاً وحَسَداً وبُغضاً ﴿للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم﴾ من كان في قلبه غِلٌّ على أَحَدٍ مِن الصحابة ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس مِمَّنْ عَناهُ الله بهذه الآية، لأن الله تعالى رتَّبَ المُؤمنين على ثلاثة منازل: المهاجرين والأنصار والتابعين الموصوفين بما ذَكَرَ الله، فَمن لم يكن من التَّابِعينَ بهذِه الصفة كان خارجًا من أقسام المؤمنين.
قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: الفقراء المهاجرين، والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجتهد أن لا تكون خارجاً من هذه المنازل.
وقال مالك بن مغول : قال عامر بن شراحيل الشعبي: يا مالك تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة [بخصلة]، سئلت اليهود: من خير أهل مِلَّتِكُم فقالت: أصحاب موسى عليه السلام، وسئلت النصارى: من خير أهل مِلَّتِكُم فقالوا: حواري عيسى عليه السلام. وسئلت الرافضة: من شر أهل مِلَّتِكُم فقالوا: أصحاب محمد ﷺ! ، أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم؛ فالسَّيفُ عَلِيهِم مَسلُولٌ إلى يَومِ القِيامَة لا تقوم لهم راية ولا يَثبُتُ لَهُم قَدمٌ ولَا تَجْتَمع لهم كلمة، كُلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شَملهم وإدحَاضِ حُجَّتِهم، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة.
قال مالك بن أنس: من يُبْغِضُ أحداً من أصحاب رسول الله ﷺ أو كان في قلبه عليهم غِلٌّ فليس له حق في فِيء المسلمين ثم تلا: ﴿مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ○ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ○ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ○ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر:7-10]
[تفسير البغوي]
وحسب من بعدهم من الفضل أن يسير خلفهم، ويأتم بهداهم، ولهذا ذكر الله من اللاحقين، من هو مؤتم بهم وسائر خلفهم فقال: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ أي: من بعد المهاجرين والأنصار ﴿يَقُولُونَ﴾ على وجه النصح لأنفسهم ولسائر المؤمنين: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾، وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين، السابقين من الصحابة، ومن قبلهم ومن بعدهم، وهذا من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم لبعض، بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض، وأن يحب بعضهم بعضا، ولهذا ذكر الله في الدعاء نفي الغل عن القلب، الشامل لقليل الغل وكثيره الذي إذا انتفى ثبت ضده، وهو المحبة بين المؤمنين والموالاة والنصح، ونحو ذلك مما هو من حقوق المؤمنين.
فوصف الله من بعد الصحابة بالإيمان، لأن قولهم: ﴿سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ دليل على المشاركة في الإيمان وأنهم تابعون للصحابة في عقائد الإيمان وأصوله، وهم أهل السنة والجماعة، الذين لا يَصدُقُ هذا الوَصْفُ التَّامُ إلا عَليهِم، ووصفهم بالإقرار بالذنوب والاستغفار منها، واستغفار بعضهم لبعض، واجتهادهم في إزالة الغِلِّ والحِقْد عن قلوبهم لإخوانهم المؤمنين، لأن دُعَاءَهُم بذلك مستلزم لما ذكرنا، ومتضمنٌ لمحبة بعضهم بعضا، وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه وأن ينصح له حاضراً وغائباً، حياً وميتاً، ودَلَّتِ الآيةُ الكَرِيمة [على] أنَّ هَذا من جملة حقوق المؤمنين بعضُهُم لبعض، ثم ختموا دعاءهم باسمين كريمين، دالين على كمال رحمة الله وشدة رأفته وإحسانه بهم، الذي من جُملته، بَل من أجْلِه، توفيقهم للقيام بحقوق الله وحقوق عباده.
فهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أصناف هذه الأمة، وهم المستحقون للفيء الذي مصرفه راجع إلى مصالح الإسلام.
وهؤلاء أهله الذين هم أهله، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه.
[تفسير السعدي]