في هذا الدرس
بدأ الشيخ -رحمه الله- بذكر منازل السائرين، وهي كثيرة؛ لكنه بدأ بمنزلتان عظيمتان من منازل السائرين، بل إنهما كما قال الشيخ أصلان عظيمان وأساسان متينان يقوم عليهما السير إلى الله والدار الآخرة، وهما شرطان لقبول الأعمال، فكل عمل يقوم به العبد لا يقبله الله إلا إذا قام على هذين الشرطين وأُسِّسَ على هذين الأصلين:
– الإخلاص للمعبود،
– والمتابعة للرسول،
ولهذا يقول الله -تعالى-: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110]
فضيلة الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
العناوين الرئيسة وجدول المحتويات
مختصر شرح الشيخ [*]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاةُ والسلامُ على إِمامُ المرسلين نبينا محمدٍ وعلى آلهِ وأصحابهِ أجمعين، أما بعد‘‘
فنقرأ في المنظومة والتعليق عليها، منظومة (السير إلى الله والدار الآخرة) للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، يقول الشيخ -رحمه الله-:
المتن (الجزء 4) [البيت الأول]
سَعِدَ الَّذِينَ تَجَنَّبُوا سُبُلَ الرَّدَى
وَتَيَمَّمُوا لِمَنَازِلِ الرَّضْوَانِ
هذا هو أصل طريقهم وقاعدة سَيْرِ فريقهم:
أشرت في الدرس الماضي إلى ما في هذا البيت الذي بدأ به الناظم -رحمه الله- منظومته من براعة في الاستهلال، وبدأ هذه المنظومة الموسومة بـ (منظومة السير إلى الله والدار الآخرة) بهذا البيت، مبيناً قاعدة السير والأصل الذي يمشي عليه السائرون إلى الله والدار الآخرة، وأنه ينبني على أمرين ويقوم على أساسين: تجنّب سُبل الردى، واختار - رحمه الله - هذا الفعل (تَجَنَّبْ) دون غيره لبيان شدة المباعدة بينهم وبين سبل الردى، كأنهم في جانب وسبل الردى في جانب آخر، بعيدون عن سُبل الردى وعن كُلّ ما يُوصل إليها، وهذا فيه إشارة إلى شدة حيطتهم وحسن رعايتهم وتمام اهتمامهم بهذا الأمر.
سَعِدَ الَّذِينَ تَجَنَّبُوا سُبُلَ الرَّدَى
أي ابتعدوا عنها ولم يقربوا منها وحذروا تمام الحذر من الوقوع فيها.
وَتَيَمَّمُوا لِمَنَازِلِ الرِّضْوَانِ
يعني تخلوا عن الشر وتجنبوه وابتعدوا عنه واتجهوا بكليتهم إلى طريق الخير وتيمموا لسبيله، وتوجهوا إلى طريقه.
"مَنَازِلِ الرِّضْوَانِ" أي المنازل التي يُنَال بها رضوان الله، وذكر -رحمه الله- كما أشرت في الدرس الماضي أنهم ذكرهم أولاً بصفة تركهم لسبيل الشر، ثم وصفهم بإقبالهم على سبيل الخير، وهذا فيه إشارة إلى قاعدة معروفة عند أهل العلم وهي أن (التخلية قبل التحلية) أولاً يُخلى المكان من الوصف الذميم ثم يُملأ المكان بكل وصف حميد.
وبدأ هذه المنظومة بقوله (سَعِدَ الَّذِينَ) وأشرتُ لكم في الدرس الماضي إلى أن هذه البداية تدلُّ على أن الأوصاف المذكورة في هذا النظم هي أوصاف أهل السعادة، فكما أن هذه المنظومة تسمى (منظومة السير إلى الله والدار الآخرة) يمكن أيضاً أن نسميها (منظومة في صفات أهل السعادة)، لو قيل ما هي صفات أهل السعادة وما حليتهم وما نعوتهم؟ لوجدت ما في هذا المنظومة شافياً وافياً في بيان صفات السعداء، وهذا مما يبين لنا براعة الاستهلال في هذا النظم بأن بدأ بقوله: "سَعِدَ الَّذِينَ" سَعِدَ الذين اتصفوا بهذه الصفات المذكورة في هذا النظم، وكلكم يعلم أن السعادة مطلوب كُل إنسان، الكل يبحث عن السعادة والكل يرجو لنفسه ولمن يُحب السعادة، ولا أحد يقصد أصَالةً طلب الشقاء لنفسه، كل يطلب السعادة فهي غاية مُنى الناس، وكُلُّهم يسعى في تحصيلها، لكن أفهام الناس ومداركهم تتفاوت في تحديد مفهوم السعادة ومعرفة سبيل نيلها، فمنهم من يرى أن السعيد من كَثُرَ ماله، ومنهم من يرى أن السعيد من عَظُمت رئاسته، ومنهم من يرى أن السعيد من كثر مزاحه ومرحه، ومنهم يرى أن السعيد من أكبَّ على أنواع الملهيات وصنوف الملذات، ومنهم ومنهم.. كُلِّ له رأي، ﴿لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ [البقرة:148]
والعلماء -رحمهم الله- أعني أهل العلم بالكتاب والسنة الراسخين في العلم حدَّدوا مفهوم السعادة تَحدِيداً واضحاً ألا وهو أن حقيقة السعادة راحةُ القَلبِ فَمتى حصل للقلب الراحة حصلت السعادة، فإن لم توجد راحةٌ في القَلب فلا سعادة حتى ولو كثر مال الإنسان، حتى وإن عَظُمت رئاسته، حتى وإن اشتغل بأنواع من الملذات والمُلهيات، فالسعادة لا تكون ما دام أن القلب غير مرتاح.
السعادة الحقيقة تكون براحة القلب، فمتى وجدت في القلب الراحة والطمأنينة فالإنسان سعيد حتى وإن قل ماله، حتى وإن عُدِمت رئاسته، حتى وإن كان ما كان ما دام أن قلبه مرتاح، وأي سعادة عند من أوتي من المال ما أوتي قارون وقلبه في اضطراب متواصل وقلق دائم ويعاني كرباً وشدة، أين السعادة؟ وهكذا أيضاً فيمن عَظُمت رئاسته أين السعادة إن لم يرتح القلب ولم يطمئن ؟
ولهذا بعض الناس يلجأ -عياذاً بالله- إلى المخدرات وإلى الخمور وإلى أمور تُغيِّب وَعيه وتُذهِبُ حِسَّهُ بَحثاً عن السعادة، ويكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، أين السعادة عند هؤلاء؟ ولهذا السعادة لا تنال ولا تحصل إلا براحة القلب، إذا ارتاح القلب حصلت السعادة، وانظر بعد هذا التقديم ماذا قضى رب العالمين وخالق الخلق أجمعين في أمر السعادة، قال الله تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ ○ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ [طه:123-124] "مَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ" ضد الضلال ماذا؟ الهداية "وَلَا يَشْقَى" ضد الشقاء؟ السعادة، نفي الضلال يستلزم ثبوت ضده وهو الهداية ونفي الشقاء يستلزم ثبوت ضده وهو السعادة، فمن اتبع هدى الله فهو مهتد سعيد، ومن أعرض عن هدى الله -تبارك وتعالى- فهو ضَالٌ شَقي لا منال له بسعادة ولا سبيل له إلى تحصيلها ما دام يعيش في ضلالة.
ولما قال المشركون في حق النبي ﷺ ومن معه: إن الله أنزل القرآن على محمد ومن معه ليشقى به، يعني ليكون القرآن سبباً لشقاء محمد ومن معه، هكذا زعم المشركون، فأنزل الله قوله: ﴿طه ○ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ ○ إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ﴾ [طه:1-3] أي أنزلناه عليك لتَسْعَد، فالسعادة بالقرآن، السعادة بالإيمان، السعادة بطاعة الله واتباع أمره -تبارك وتعالى-، ويقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:28] واعتبر في هذا الباب الأدعية الواردة في الكرب ومعالجة الكرب الذي يُصيِبُ قَلب الإنسان، والكرب هو الشدة التي يعاني منها القلب بسبب مصيبة حادثة أو أمر متوقع فيألم القلب ويكرب ويشتد، بأي شيء عولج الكرب في السنة؟ وانظر أدعية الكرب الواردة في السنة وهي عديدة لتخرج منها بفائدة عظيمة في باب السعادة، لو نظرت في أدعية الكرب وهي متنوعة منها ما ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ يقول في الكرب أو عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم، لا إله إلا الله الحليم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم" [1] ودعوة ذي النون ما قالها مكروب إلا فرج الله كربه: ﴿لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء:87] وأيضاً ما ثبت في الحديث الآخر قول النبي ﷺ لإحدى الصحابيات: «أَلا أُعَلِمُكِ دعاء تقولينه في الكرب أو عند الكرب قالت: بلى يا رسول الله، قال: "تقولين: الله الله ربي لا أشرك به شيئاً" [2] وأيضاً في الدعاء الآخر: "اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت" [3] هذه كلها من الأدعية الواردة في الكرب، كلها تدور على التوحيد، وهنا يقول العلماء أن التوحيد مَفْزَعٌ للإنسان في الكرب وفي كُل شدة، فالكرب إذا أصاب قلب المؤمن فزعه إنما يكون إلى توحيد الله -جل وعلا-، فَيسكُن القَلبُ ويَطمأنُ ويَذْهَب عنه شِدَّتُه وتحصل له الراحة، ولهذا قال ﷺ: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن" [4] ، فالمؤمن أمره دائماً إلى خير في سراءه وضراءه وشدته ورخائه و وجميع أحواله.
فالسعادة إنّما تُنال بطاعة الله وإنّما تُحصَّل بسلوك سبيل مرضاة الله بهذا تنال السعادة، ومن جنح عن هذا الطريق وانحرف عن هذا السبيل أخذ بسبيل الشقاء، شقاء دائم في الدنيا والآخرة.
أشرتُ أيضاً إلى أن موضوع السعادة يشغل بال كثير من الكُتَّاب وكثير من المثقفين وكل يدلي بِدَلوِه في طريق حصول السعادة، ومن أغرب ما يكون بل من أشنع ما يقع في كثير من المسلمين أنه إذا حصلت له شدة وضائقة وآلام وتوتر وقلق واضطراب في أموره وأحواله يذهب ويقرأ لكُتَّاب غَربِيين يبحث عن طريق السعادة، مثل بعضهم يقرأ كتاب (دع القلق وابدأ الحياة) لأحد النصارى، وكتب أخرى كتبها نصارى وغيرهم في تحديد مفهوم السعادة، وترى في كثير من البلاد في المكتبات كتب كيف تكون سعيداً و وسائل السعادة لكُتَّاب غربيين، فيا سبحان الله كأنما عندهم قرآن يتلى! وكأنما عندهم سنّة فيها الضياء وفيها النور! وكأنما عندهم كتاب الله - جل وعلا - الذي يهدي للتي هي أقوم ، أين عقول هؤلاء؟ تبحث السعادة عند أفقر الناس تحصيلاً لها، عند أكثر الناس بعداً عنها؟ أيعقل أن مسلماً يبحث عن طريقة السعادة عند نصراني أو عند يهودي، أرأيتم لو شاهدتم رجلاً من المسلمين يخرج من المسجد ويذهب إلى كنيسة من الكنائس ويسأل أحد النصارى يقول: أنا لست سعيداً كيف أُحصّل السعادة؟ هذا مثل من يبحث عن كُتبٍ ألفها نصارى ويقرأ فيها عن سبيل السعادة!، ثم بعض المُثقفين عندما يتحدث عن مفهوم السعادة في بعض وسائل الإعلام وفي بعض الصحف ونحو ذلك، يتبجح يقول: قال المستشرق فلان!، ويملأ فمه بالعبارة كأنه جاء بما لم تأت به الأوائل، قال المستشرف فلان، وقال فلان، ويذكر كفّاراً وغربِيِّينَ من أبعد الناس عن السعادة، فهل بلغ بنا الحال هذا المبلغ عندما نتحدث عن السعادة ننظر ما عند هؤلاء؟ يكفي في هذا الباب قول الله تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء:9] وما أوتي كثير من الناس إلا من جهلهم بالقرآن، وجهلهم بمكانته وجهلهم بأثره وعظيم نفعه على الناس في تحصيل السعادة، فمن نَشَدَ السعادة لن يجدها إلا في القرآن وفي سنة النبي الكريم ﷺ، من بحث عن السعادة والله لا يجدها إلا في كتاب الله وسنة نبيه ﷺ ومن ذهب يبحث عن السعادة في كتب المستشرقين وأمثالهم فهو تائه وضائع ومنصرف عن مَعِين السعادة إلى زُبَالات أذهان ليس فيها شيء من تحصيل السعادة، اللهم إلا شكليات أو أمور من هذا القبيل لكن السعادة الحقيقة ما يمكن أن تُنَالَ إلا بِطاعة الله واتباع نبيه ﷺ.
وبهذه المناسبة أرشد جميع الإخوان إلى كتاب أو رسالة صغيرة عظيمة النفع كبيرة الفائدة شافية وافية في بابها للشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- سماها (الوسائل المفيدة للحياة السعيدة) ولتأليفه لهذا الكتاب قصة، كان -رحمه الله- في آخر حياته في لبنان في مستشفى يُعالج ألماً شديداً في رأسه، وكان على سرير المرض ومعه ابنه وبعض أقربائه، ومنعه الطبيب المعالج عن القراءة والكتابة في هذه الأوقات حتى يهدأ الرأس ويخف الألم، ثم بعد ذلك يواصل القراءة، فكان الشيخ وهو في المستشفى رأى كِتاباً لأحد النصارى اسمه (دع القلق وابدأ الحياة)، وهو كتاب مترجم إلى اللغة العربية، فَقلّب الكتاب وقرأه ووجد ما فيه من محاولات هنا وهناك للوقوف على أسباب السعادة، فاتَّجه وهو على سرير مرضه إلى كتابة رسالة تكون بأيدي المسلمين يقرؤونها في مثل هذه الحالات وقد سماها بعض أهل العلم (مستشفى الأمراض النفسية) بمعنى من كان قلقاً مُضطرباً مغموماً عنده مشاكل إذا قرأ هذه الرسالة بأناةٍ وفهم وتُؤَدة وطمأنينة يجد فيها عِلاجاً، وكثير -بحمد الله- عَالجوا أنفسهم بهذه الرسالة، عندهم أشياء من الاضطراب والقلق فقرأوا هذه الرسالة فوجدوا فيها من الوسائل الشافية والطرق الوافية لتحصيل السعادة، وإن وجدنا وقتاً في هذه الدورة سنقرأ بإذن الله هذه الرسالة سوياً بحول الله وقوته، فكتب الشيخ -رحمه الله- هذه الرسالة على سرير المرض وقد قلت لكم إن الطبيب نهاه عن الكتابة وكان من عادته -رحمه الله- تقدير رفقائه ومن معه، فيقول ابنه أحمد أو محمد يقول: كنت مع الوالد فكانت معه كراسه وقلم، يقول: فإذا خرجنا من عنده أخرجها وبدأ يكتب الرسالة، يقول: فإذا دخلت عليه أو دخل عليه واحد منا أخفى الكراسة تحت السرير تقديراً لمشاعر من معه.
لاحظ هنا أمراً يفيدك غاية الفائدة، الشيخ الآن في مرض وشدة وتعب شديد من رأسه، حتى أن الطبيب ينهاه عن الكتابة وهو في هذه الحالة يكتب لعموم الناس "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة" في مرض وشدة وتعب ويكتب هذه الرسالة التي لا تمل من قراءتها، ومن جودتها ومن حسن تصنيفها وهو على هذه الحالة، فيبين لك كيف تحصل السعادة وما وسائل تحصيلها، ألمه وشدته ما شغلته عن هذا البيان العظيم والنصح الشافي.
هذا بمناسبة بدأ الشيخ -رحمه الله-:
سَعِدَ الَّذِينَ تَجَنَّبُوا سُبُلَ الرَّدَى *** وَتَيَمَّمُوا لِمَنَازِلِ الرِّضْوَانِ
علامة مرجعية (1)
قال رحمه الله:
المتن (الجزء 5) [البيت الثاني]
فَهُمُ الَّذِينَ قَدْ أَخْلَصُوا فِي مَشْيهِمْ
مُتَشَرِّعِينَ بِشِرْعَةِ الإِيمَانِ
هاتان القاعدتان -وهما الإخلاص والمتابعة- شَرطٌ لِكُلِ عِبادة ظاهرةٍ وبَاطِنة، فَكُلُّ عَمَلٍ لا يُراد به وجه الله فَهو بَاطِل، وكلُّ عمل لا يكون على سُنَّة رسول الله ﷺ فهو مردود، فإذا اجتمع للعمل الإخلاص للمعبود -وهو أن يُراد بالعمل وجه الله وحده-، والمتابعة للرسول -وهو أن يكون العملُ قد أُمِرَ به- فهذا هو العمل المقبول.
بدأ الشيخ -رحمه الله- بذكر منازل السائرين وأوصاف السعداء، منازل السائرين كثيرة وسيأتي معنا شيء منها، لكنه بدأ -رحمه الله- بالإخلاص والمتابعة، وهما منزلتان عظيمتان من منازل السائرين، بل إنهما كما قال الشيخ أصلان عظيمان وأساسان متينان يقوم عليهما السير إلى الله والدار الآخرة، وهما شرطان لقبول الأعمال، فكل عمل يقوم به العبد لا يقبله الله إلا إذا قام على هذين الشرطين وأُسِّسَ على هذين الأصلين:
- الإخلاص للمعبود،
- والمتابعة للرسول،
ولهذا يقول الله -تعالى-: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110] فذكر -عزَّ وجلَّ- الأصلين، قوله: "فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا" لا يكون العمل صالحاً إلا إذا كان موافقاً لهدي الرسول الكريم ﷺ، وقوله: "وَلَايُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا" هذا فيه الإخلاص وأن العمل لا يكون مقبولاً عند الله إلا إذا كان خالصاً لوجهه الكريم -سبحانه-، فالإخلاص والمتابعة أصلان عظيمان وأساسان متينان لا قبول لأي عمل من الأعمال إلا بهما.
يقول الله -جل وعلا-: ﴿ليبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2] قال الفُضيل بن عِياض -رحمه الله- في معنى (أحسنُ عملاً): "أخلصُه وأصوبُه"، قيل: يا أبا علي، وما أخلصُه وأصوبُه؟، قال: "العملُ إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا؛ لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خَالصًا؛ لم يُقبل، حتَّى يكونَ خالصًا صوابًا؛ فالخالصُ ماكان لله، والصوابُ ماكانَ على السُّنَّةِ". [5] أخرج هذا الأثر ابن أبي الدنيا في كتابه (الإخلاص والنية) وأخرجه كذلك أبو نعيم في كتابه (الحلية) وهو أثر عظيم عن هذا الإمام في بيان هذين الشرطين العظيمين الَّلذَيْنِ لا قبول لأي عَملٍ من الأعمال إلا بِهما.
والإخلاص هو مأخوذ من الخُلوص وهو الصفاء والنقاء، فالله - عز وجل - لا يقبل من العمل إلا الخالص، أي: الصافي النقي الذي لم يرد به إلا وجه الله، وإذا أردت أن تعرف معنى الإخلاص في اللغة فاقرأ قول الله تعالى في سورة النحل: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ﴾ [النحل:66] يقول -جل وعلا-: "خالصاً" أي صافياً نقياً، من أين يخرج اللبن؟ "مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ" من هذا المكان يخرج، ويخرج بهذه الصفة "خالصاً" أي صافياً نقياً لا ترى فيه نقطة دم ولا قطعة صغيرة من الفرث، مع أنه خرج لتوه من بين الفرث والدم، وفي الوقت نفسه "سَائِغاً" يعني أنت تعرف مخرجه وتشربه وتستسيغه، بل بعضنا عندما يشرب اللبن يقول: ما ألذ طعمه وما أحسن نكهته، بل إن بعض رعاة الأغنام ورعاة الإبل من شدة ولعهم بالحليب وحبهم له إذا لم يجد الإناء يدخل تحت الناقة ويرضع من ثديها، فتبارك الله أحسن الخالقين، وهذه عبرة كما قال الله: "وإن لكم في الأنعام لعبرة" هذه عِبرة يخرج هذا اللبن من بين الفرث والدم بهذه الصفة، خالصاً أي صافياً نقياً.
العبادة لا يقبلها الله إلا إذا كانت خالصة ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: 5] ويقول تعالى: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ [الزمر: 3] أي الصافي النقي، فالله -عز وجل- لا يقبل من العِبادة إلا ما كان منها خالصاً لله لم يرد به إلا وجه الله، أرأيتم من جاء إلى المسجد وصلّى وكان من نيته في صلاته أن يحوز على إعجاب زميل له أو يسترضي رئيساً له أو نحو ذلك، هل هذا العمل مقبولاً عند الله؟ يقول تعالى:"أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمِلَ عملًا أشرك معي فيه غيري تركتُه وشِرْكَه" [6]، فهو سبحانه وتعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه، ما معنى خالصاً لوجهه؟ أي صافياً نقياً لم يرد به إلا الله، هذا شرط في قبول الأعمال وإذا اختل الشرط لم يُقبل العمل. والشرط الثاني: المتابعة للرسول بأن تعبد الله عز وجل على ضوء ما جاء عنه ﷺ ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر:7] ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور:63] ومعنى قوله "عَنْ أَمْرِهِ": أي أمر الرسول ﷺ، أضاف الأمر إلى الرسول ﷺ، وقد ذكرنا في أن المفرد إذا أُضِيفَ يَعُم وهنا أضيف المفرد الذي هو الأمر إلى الرسول ﷺ وليس إلى الله، أي فليحذر كل مخالف لأمر الرسول ﷺ "أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ" الفتنة الشرك، "أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ".
ومن الأدلة في هذا الباب حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: "مَن عَملَ عَملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدّ" [7] وفي رواية: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" [8] فهذا أصل في أن العمل لا يكون مقبولاً إلا بالاتباع، ولهذا تجد كثير من المصنفين يبدأون بهذين الحديثين بحديث عائشة وحديث عُمر بن الخطاب: "إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ" [9] هذا فيه أن العمل لا يُقبل إلا إذا كان خالصاً، وحديث عائشة: "مَن عَمِلَ عَملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدّ" فيه بيان أن العمل لا يُقبل إلا إذا كان موافقاً للسنة، فالإخلاص للمعبود والمتابعة للرسول شرطان أساسان، وأصلان متينان لا قبول لأي عمل من الأعمال إلا بهما، ولهذا بدأ الشيخ وهذا أيضاً من حسن البدء عنده -رحمه الله- ، فلما أخذ يُعدِّدُ منازل السائرين أول ما بدأ في الإخلاص والمتابعة لأن المنازل إن وجدت بدون إخلاص أو بدون متابعة هل تكون مقبولة؟ لا، فلابد من الإخلاص والمتابعة من أول الطريق وفي كل الطريق، لابد أن يكون الإنسان مُخلِصَاً للمَعبود ومتابعاً للرسول، والإخلاص هو تحقيق "لا إله إلا الله" والمتابعة هي تحقيق شهادة أن "محمداً رسول الله"، وعن هذين الأمرين يُسأل الناس يوم القيامة:
1. ماذا كنتم تعبدون؟
2. ماذا أجبتم المرسلين؟
جواب السؤال الأول: (لا إله إلا الله)، ومعناه: أي إخلاص العبادة الله، وجواب السؤال الثاني: (محمد رسول الله)، ومعناه: أي المتابعة للرسول ﷺ، لأن "لا إله إلا الله" فيها الإخلاص، و"محمد رسول الله" فيها المتابعة، وإلا ما معنى "وأشهد أن محمداً رسول الله؟" قد قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [النساء:64] فإذا لم تكن طاعة؛ فما معنى الشهادة له بالرسالة؟ فشهادة أن محمداً رسول الله تعني طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر والانتهاء عما نهى عنه وزجر.
قال رحمه الله:
فَهُمُ الَّذِينَ قَدْ أَخْلَصُوا فِي مَشْيِهِمْ
أي في كل حركة من حركاتهم وفعل من أفعالهم من أعمال القلوب أو أعمال الجوارح أو أقوال اللسان في كل هذا المشي أتوا به مخلصين لله، والمشي هنا يشمل المشي الحسي للمساجد والحج، والمشي المعنوي الذي هو السير في طاعة الله -تبارك وتعالى- فهم في كل مشي لهم مخلصين لله ويبتغون بمشيهم وجه الله -تبارك وتعالى-.
(قَدْ أَخْلَصُوا فِي مَشْيِهِمْ) هذا الشرط الأول، الشرط الثاني في قوله:
مُتَشَرِّعِينَ بِشِرْعَةِ الإِيمَانِ
أي ملتزمين بشرعة الإيمان أي شرعة التي كان عليها الرسول الكريم ودعا إليها صلوات الله وسلامه عليه.
ثم علق رحمه الله على البيت بقوله:
هاتان القاعدتان -وهما الإخلاص والمتابعة- شرط لكل عبادة ظاهرة وباطنة.
معنى شرط أن انتفاءه يدل على انتفاء المشروط فلا تكون العبادة مقبولة إلا به فإذا لم يوجد الإخلاص أو لم توجد المتابعة لم يُقبل العمل، وإذا سألت عن أحوال الناس في هذين الشرطين فهم أربعة لا يخرجون عنها:
القسم الأول: أهل الإخلاص والمتابعة أخلصوا لله في أعمالهم وتابعوا الرسول ﷺ فيها.
القسم الثاني: عندهم إخلاص للمعبود وليس عندهم متابعة للرسول ﷺ، يعني يجتهدون في عبادات يقصدون بها وجه الله ولكنهم لا يلتزمون بسنة النبي ﷺ وإنما يعبدون الله بالبدع والأهواء ومحدثات الأمور وما أنشأه لهم أشياخهم يقومون بهذه العبادات لا يقصدون بها إلا وجه الله، لكن هل تقبل؟ لا يقبلها الله لأن الله -عز وجل- كما أنه لا يقبل من العمل إلا الخالص فهو كذلك لا يقبل من العمل إلا ما كان صاحبه متابعاً فيه للرسول الكريم ﷺ.
القسم الثالث: عندهم متابعة وليس عندهم إخلاص، تجده يفعل أعمال على السنة ولكنه يفعله رياء -نسأل الله العافية- يفعلها سمعة، يفعلها مريداً بها الدنيا، هذا أيضاً لا يقبله الله، لأنه وإن وجدت فيه المتابعة فإنّه لم يوجد فيه الإخلاص، فالله لا يقبل العمل إلا بالإخلاص والمتابعة.
القسم الرابع: من لا إخلاص عنده ولا عنده أيضاً متابعة للرسول ﷺ.
وكل هذه الأقسام ليست مقبولة إلا الأول وهو أن يكون العمل خالصاً لوجه الله وصاحبه متبعاً للرسول الكريم ﷺ.
قال رحمه الله موضحاً:
فَكُلُّ عَمَلٍ لا يُراد به وجه الله فَهو بَاطِل، وكلُّ عمل لا يكون على سُنَّة رسول الله ﷺ فهو مردود، فإذا اجتمع للعمل الإخلاص للمعبود -وهو أن يُراد بالعمل وجه الله وحده-، والمتابعة للرسول -وهو أن يكون العملُ قد أُمِرَ به- فهذا هو العمل المقبول.
وإلى هنا نقف والله تعالى أعلم وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.