في هذا الدرس

ولو تأملت تجد أنَّ أحوال العبد في هذه الحياة الدُّنيا لا تخرجُ عن أمورٍ ثلاثة: إمَّا أن يكون مُبتلى بمصيبةٍ، أو أن يكون مُمتنًّا عليه بنعمةٍ ومنِّةٍ، أو أن يكون واقعًا في ذنب، والواجبُ على العبدِ أن يجاهدَ نفسَه مجاهدةً تامةً على أن يكون عند البلاء من الصابرين، وعند النِّعم من الشاكرين لله وعند وقوعه في الذُّنوبِ مِن المستغفرين؛ فإذا كان كذلك فقد جمع لنفسه الخير كلَّه.

فضيلة الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

مختصر شرح الشيخ [*]

بسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ

إنَّ الحمدَ لله نحمَده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسِنا وسيِّئاتِ أعمالِنا من يهدِه اللهُ؛ فلا مُضلَ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهدُ أنَّ مُحمَّدًا عبدُه ورسولُه ﷺ وعلى آله وصحبِه أجمعين. نعم

قال شيخ الإسلام الإمام مُحمَّد بن عبد الوهَّاب -رحمه الله وغفر له- في كتابه: القواعدُ الأربع:

المتن (الجزء 1 من 6)

بسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ، أسال الله الكريم رب العرش العظيم أن يتولاك في الدنيا والآخرة وأن يجعلك مُباركًا أينَما كنت، وأن يجعلك ممن إذا أُعطي شكر، وإذا اُبتُلي صبر، وإذا أذنبَ استغفر؛ فإن هؤلاء الثَّلاث عنوانُ السَّعادة.

الإمامُ؛ شيخُ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- كان ناصحًا أعظمَ نصيحةٍ للنَّاس في بيانِ التَّوحيد الذي خُلقوا لأجله، ووُجِدوا لتحقيقه والتحذيرِ من الشِّرك بالله -عز وجلَّ- الذي هو أعظمُ الآثامِ وأكبرُ المحرَّمات.

وكان من عنايته -رحمه الله تعالى- بهذا البابِ العظيمِ، هذه الرسالة الصغيرة الحجم، الكبيرة الفائدة الَّتي لا يستغني عنها كلُّ مسلمٍ؛ فهي بحق رسالةٌ عظيمة، وكتيبٌ قيِّمٌ في بابٍ هو أعظم الأبواب، وقد جمعَ في هذه الرِّسالة قواعد أربعة جمعها -رحمه الله- وذكر أدلتها من كتابِ الله -عزَّ وجلَّ- وسُنَّةِ نبيه ﷺ فكان مَن ضَبَطَ هذه القواعدَ وفهِمَها؛ لا يلتبس عليه الأمر، ولا تشتبه عليه الأمور و لا تنطلي عليه أضاليل أهل الضلال وأباطيلُ أهل الباطلِ.

فهي قواعد أربعة كبار عظيمة لا غنى لأي مسلم عنها في باب معرفة التوحيد والشرك والتمييز بين الحق الذي هو التَّوحيد، والباطلُ الَّذي هو الشِّرك.

وأصبح معرفة التمييز بين التوحيد والشرك ضرورةً مُلحَّةً ولا سيما في مثل هذه الأزمنة المتأخرة الَّتي لُبِّسَ على كثيرٍ مِن النّاس في مفهوم التَّوحيد، و أدخِلَت عليهم صورٌ من الشِّرك وأبوابٌ منه على أنَّها ليست مضادةً للتَّوحيدِ ولا منافية له.

وقد بدأ هذه الرسالة كعادتِه -رحمه الله تعالى- في كتبه عمومًا، ورسائِله بالدُّعاءِ لمَن يطَّلعُ على كتابِه ويقرأ رسالتَه، ويدعو -رحمه الله- بدعوات عظيمةٍ، دعواتٍ جامعة تجمعُ للمسلمِ خَيْرَيَ الدُّنيا والآخرة، وهذا كذلك من نصحه -رحمه الله تعالى- ومن شفقتِه على النَّاس عمومًا؛ ليتبصروا في دينِهم وليعرفوا الحقَّ الَّذي خلقوا لأجله ووجدوا؛ لتحقيقِه، وليكونوا على حذرٍ من الضَّلالِ والباطلِ.

بدأ هذه الرسالة(القواعد الأربعة) بقولِه: "بسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ" وهذه كلمة يُبدأ بها في الدُّروسِ والمقالاتِ والكتبِ. وهي مفتاحٌ يُبدَأ به؛ طلبًا للعون من الله -تبارك وتعالى- وتوفيقِه وتسديده.

قال: "أسألُ الله الكريم ربَّ العرشِ العظيمِ أن يتولاك في الدُّنيا والآخرة"

أسألُ الله الكريمَ: أطلب منه -جلَّ وعلا-، (الكريمُ) اسمٌ من أسماء الله -جلَّ وعلا- على صفة الكرم. والكرمُ هذه الصفة تعني اجتماع صفات الخير، وكواملِ الصفات وجوامع النُّعوتِ؛ ولهذا فإن هذا الاسم من الأسماء الَّتي تدل على أوصاف عظيمة لا على معنى مفرد، الأسماء الدالة على أوصافٍ عظيمة ونعوت جليلة كثيرة ثابتة للربِّ الكريم -سبحانه وتعالى-.

قال: "أسأل الله الكريم ربَّ العرش العظيم" ذكر هنا ربوبية الله -سبحانه وتعالى- والربوبية هي الملك والخلق والتصرف والتدبير في هذه الكائنات، وخصَّ بالذِّكر هنا (العرشَ) ربوبية الله -سبحانه وتعالى- للعرش؛ لأنَّه أعظم المخلوقاتِ وأكبرها، والله -سبحانه وتعالى- وصفَ عرشهَ بالعظمه في القرآن الكريم، وصفه بالكرم، وصفه بالمجد، وجاء أيضًا أوصافٌ كثيرة له في سنة النَّبي الكريم ، فذكرَ المُصنِّف -رحمه الله تعالى- هنا ربوبية الله -عز وجل- للعرش، خصَّه بالذِّكر لأنَّه أكبر المخلوقات وأعظم المخلوقات.

وكم هو جميلٌ بالمؤمنِ في دعائِه لله -جل وعلا- ومناجاتِه له، أن يذكرَ عظمة ربِّهِ -جلَّ وعلا- وكماله وكبريائه، وعندما تناجى الله -عزَّ وجلَّ- وتدعوه متذكِّرًا رُبُوبيَّتَه، ولاسيما رُبُوبيَّتَه -جلَّ وعلا- للعرشِ العظيم، وتذكرُ عظمةَ هذا المخلوق، وكِبَرَه، وضآلةَ المخلوقات الأخرى بالنسبةِ إليه؛ ممَّا يعينُك على ذكرِ عظمةِ الله -جلَّ وعلا- وكبريائِه، وأنَّ هذا الكونَ الَّذي تحتَ العرشِ، ودون العرشِ، كلَّهُ مُسخَّرٌ ومدبَّرٌ لله -جلَّ وعلا- يُصَرِّفُه كيفَ يشاء، ويقضي فيه بما يريدُ، لا رادَّ لحكمِه ولا مُعقِّبَ لقضائِه، وهو -سبحانه وتعالى- فوق عرشه المجيدِ عليٌّ عليه، كلَّ يومٍ هو في شأنٍ، يُحيِي ويُميتُ، ويعزُّ ويذلُّ، ويُغني ويُقنِي، ويُضحِك ويُبكِي، ويُصِحُّ ويُمرِض، إلى غيرِ ذلك من الأمور الَّتي هي تصريفُه وتدبيِرُه لمملكتِه -جلَّ وعلا- لاشريك له في التَّدبير، ولاشريك له في التَّسخيرِ والقضاءِ؛ فالأمرُ أمرُه، والقضاءُ قضاؤه، والحكمُ حكمُه -جلَّ وعلا-.

فيذكر العبدُ عظمةَ الله وجلالَه وكمالَه ورُبُوبيَّتَه، ويجعلُ ذلك وسيلةً إلى الله -جلَّ وعلا- بين يدي دعائِه في مناجاتِه لله ومناداتِه له -جلَّ وعلا-، ولهذا قال -رحمه الله-: "أسأل الله الكريم ربَّ العرش العظيم".

يَحتَمِل قولُه: "العظيم" أنَّ المرادَ بالعظيمِ صفةٌ لله -تبارك وتعالى- ويَحتَمِل أن يكونَ صفةً للعرشِ، وكلُّ منهما حقٌّ؛ فالله -سبحانه وتعالى- (العظيم) ، ومن أسمائِه الحُسنى -تبارك وتعالى- (العظيم) وقد خُتمت أعظمُ آيةٍ في القرآن الكريم وهي (آيةُ الكرسي) بهذا الاسم ﴿وهو العَليُّ العظيمُ﴾ [البقرة:255] فالعظيمُ اسمٌ مِن أسماءِ الله، والعظيمُ أيضًا صفةَ من صفاتِ العرشِ؛ فيَحتَمِلُ هذا، ويَحتَمِلُ ذاك.

علامة مرجعية (1)

قال : " أن يتولاكَ، في الدٍُنيا والآخرة"

هذا هو المطلوب، وما قبله وسيلةٌ بين يديِه، قال: "أن يتولاك في الدُّنيا والآخرة" أي أن يكون وليٌّ لك، في دنياك وأُخْرَاك. قال الله تعالى: ﴿الله وليُّ الَّذِينَ آمنُوا يُخْرِجَهُمُ مِنَ الظُّلماتِ إلى النُّور [البقرة:257]

يتولاك في الدنيا: أي بحفظِه، وتوفيقِه وتسدِيدِه وعونِه لك على طاعتِه، وإخراجِه لكَ من الظُّلمات إلى النُّورِ، و تبصيرك في دينك والحق الَّذي خُلقتَ لأجله، ووجِدتَ لتحقيقِه، وأن يثبِّتَك على هذا الحقِّ، وأن يعيذَك مِن الضَّلال وسُبل الغواية. كل ذلك يتناوله قولُه: "أن يتولاك في الدُّنيا"، فتولِّيِ الله -تبارك وتعالى- لعبده في الدُّنيا، بحفظِه في هذه الدُّنيا مِن مُضلات الفتن، وتثبيتِه لعبدِه على الاستقامة والحق والهدى وعلى صراط الله المستقيم إلى أن يتوفاه -تبارك وتعالى- وهو عنه راضٍ.

وتولَّى الله -تبارك وتعالى- لعبدِه في الآخرةِ، يكونُ بحفظٍه من أهوالها وشدائدِها، ويكون بإنقاذه وإنجائِه من النَّار ودخولها، وتوفيقه له بدخول الجنةِ والفوزِ بنعيمِها، وأن يكرِمَه -تبارك وتعالى- بأعظمِ نعمةِ وأجلِّ منَّة وهي أن يرى الله -تبارك وتعالى- وهي أكبر النعم وأعظم المِنن.

فكل ذلك داخل في قوله -رحمه الله تعالى-: "وفي الآخرة" أو الآخرة هي أن يتولاك -تبارك وتعالى- في الآخره بأن يكونَ وليَّا لك؛ بالحفظِ و التَّوفيقِ والتَّسديدِ و العونِ إلى غيرِ ذلك.

قال: " وأن يجعلَك مُباركًا أينما كنتَ"

و هذه دعوةٌ مِن أعظم الدَّعوات وأجلِّها وأفخمِها وأكبرها، قد قال الله -تعالى- في ذكرِ نبيِّه عيسى: قال: ﴿وجعلني مُبَاركًا أينما كنتُ﴾ [مريم:31] ولا يكون الإنسانُ مُبَارَكًا أينما كان إلا إذا كان في مجالسه كلها صالحًا مُصلِحًا، إلا إذا كان في مجالِسه كلها صالحاً في نفسِه ليس منه شرٌّ، ولا ذى ولا إفساد ولا نحو ذلك، وأن يكون مُصلحاً، بحيث أنَّه في كلِّ مجلسٍ مِن مجالسِه يُسمع منه الخير؛ تُسمع منه الكلمةُ الطيبة، والموعظةُ الحسنة، والتَّنبيه النافعُ، ونحو ذلك.

ولهذا ذكر ابن القيِّم -رحمه الله- في بعض كتبه، وأظنه ذكر ذلك في كتابه (الرِّسالة التبوكية) قال: "لا يكونُ العبدُ مُباركًا أينما كان إلا إذا كان في كلِّ مجلس يجلسه، يكون فيه نفعٌ للناسِ؛ وبهذا يكون مُباركَا أينما كان، أي في أي مكان حلَّ، وفي أي موضع نزل، أو أينما كان يُنتفَعُ به، مثَلُه كمثِلِ الغيثِ أينما حلَّ نزل".

قال: "وأن يجعلك ممَّن إذا أُعطِي؛ شكر، وإذا اُبتُلِيَ صبر، وإذا أذنب؛ استغفر"

دعا بهذه الأمور الثلاثة العظيمة الَّتي جمعت الخير كلَّه والسَّعادةَ برُمَّتِها؛ ولهذا قال -رحمه الله- في خاتمةِ هذه الدعوة؛ مُبيِّنًا مكانَتها وعظم شأنِها، قال: "فإن هؤلاء الثَّلاثِ عنوان السعادةِ" أي أن السَّعادة اجتمعت في هذه الثلاث. فإذا وجدت هذه الأمور الثلاثة في العبدِ؛ فإنَّ السَّعادةَ اجتمعت فيه وتحقَّقت فيه ونالها بأعلى صورها، وأبهى حُلَلِها.

والسعادة من أعظم المطالب التي يسعى الناسُ لتحقيقها، وتُعقَد المؤتمرات والندوات والمجالس، وتُكتب المؤلفات؛ لطلبِ السَّعادةِ، وليس أحد من الناس إلا ويريدُ لنفسِه سَعادة، حتَّى الًَذين يباشرون الفساد ويتعاطون أمورَ الانحرافِ؛ يظنون أنَّها تجلِب لهم سعادة، وأنَّ السَّعادةَ تتحقَّق لهم في تلك المسالك الِّتي هي في الحقيقةِ مهالكٌ لهم، ومضارٌ عليهم في دنياهم وأخراهم، فالسَّعادةُ لا تُنال إلا بتحقيق هذه الأوصاف الثلاث، التي ذكرها رحمه الله تعالى في هذه الدعوة المباركة العظيمة. لا تُنال إلا بهذه الأوصاف الثَّلاث: (الشُّكر والصَّبر والاستغفار) هذه الأمور الثلاثة إذا اجتمعت في العبد اجتمعت فيه السَّعادة وتحققت له.

ولو تأملت تجد أنَّ أحوال العبد في هذه الحياة الدُّنيا لا تخرجُ عن هذه الأمور الثلاثة: إمَّا أن يكون مُبتلى بمصيبةٍ، أو أن يكون مُمتنًّا عليه بنعمةٍ ومنِّةٍ، أو أن يكون واقعًا في ذنب، والواجبُ على العبدِ أن يجاهدَ نفسَه مجاهدةً تامةً على أن يكون عند البلاء من الصابرين، وعند النِّعم من الشاكرين للمُنعم -سبحانه وتعالى- وعند وقوعه في الذُّنوبِ مِن المستغفرين؛ فإذا كان كذلك جمع لنفسه الخير كلَّه.

فقد قال ﷺ: "عجبًا لأمر المؤمن؛ إنَّ أمرَه كلَّه خيرٌ، إن أصابتُه سرَّاءَ شكر؛ فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر؛ فكان خيرًا له، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن" [1] فبدأ أول الحديث بقولِه:"عجبًا لأمر المؤمن" وختم الحديث بقوله: "وذلك لا يكون إلا للمؤمن"، فالمؤمن عند المصيبة صابرٌ، وعند النَّعمةِ شاكرٌ، في المصائب يفوز بثواب الصَّابرين، وفي النِّعم يفوز بثوابِ الشَّاكرين. هو فائزٌ في كلا الحالين.

والأمر الثالث قال: "إذا أذنب، استغفر" أي إذا وقع في الذنب بادر إلى الاستغفار إلى الله -جلَّ وعلا- وهو يعلم أن الله -عزَّ وجلَّ- يغفر الذُّنوب، ويعفو عن السِّيئات، ولا يتعاظمه -تبارك وتعالى- ذنب أن يغفره؛ ولهذا لا يقنط من رحمة الله ولا ييأسُ من رَوْح الله مهما كان ذنبه ومهما عَظُم جُرمه، فإنه يبادر بالأوْبَة والرُّجوع إلى الله -جلَّ وعلا-.

وقد ذكر النَّبي قصةَ العبدِ الَّذي أذنبَ ذنبًا ثُمَّ قال أستغفرُ الله، قال اللهُ -تعالى- في الحديث القدسي: "أذنبَ عبدي وعَلِمَ أنَّ له ربًّا يغفر الذَّنب؛ غفرتُ له، ثُمَّ عادَ العبدُ للذَّنب ثانيةً واستغفرَ، قالَ أذنبَ عبدِي وعَلِمَ أنَّ له ربًّا يغفرُ الذَّنب؛ غفرتُ له" [2] وتكرَّرت من العبدِ، ثمَّ قال في تمامِ الحديث: "اعمل ما شئتَ فقد غفرتُ لك"، أي ما دُمْتَ على هذه الحال، ملازمًا للاستغفار، مجاهدًا نفسكَ على ألا تقع في المعصية، وألا تقع في الخطيئة، وإذا بدر منك زَلَلٌ بادرتَ إلى الاستغفارِ؛ فأنت مغفورٌ لك.

وقد قالﷺ: "كلُّ بنِي آدمَ خطَّاء، وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابون" [3] ابن آدم ليس معصومًا؛ ابن آدم خطَّاءٌ، لكن له ربٌّ يغفر ويتجاوز ويصفحُ -عزَّ وجلَّ-، ولهذا إذا وقع العبدُ في ذنبِ جرَّتُه إليه نفسُه الضعيفة، و دعَاه إليه الشَّيطان، أو جرَّه إليه قُرناء السُّوء؛ عليه أن يعلمَ أنَّ له ربٌّ يغفرُ الذَّنبَ. ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ الله ۚ إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر : 53] فلا يزال العبدُ بخيرٍ ما دام يعلم أنَّ له ربًّا يغفرُ ويتجاوز ويصفح -سبحانه وتعالى-، وأمَّا ابنُ آدمَ فضعيفٌ، و كثيرُ الخطأ والزَّلَل، ودواعي الخطأ كثيرةٌ جدًّا، ليسَ العجبُ ممَّن هلكَ كيف هلكَ، ولكنَّ العجبَ ممَّن نجا كيف نجَا؟! [3أ]

ومِن عظيمِ حبِّ الله -جلَّ وعلا- للاستغفارِ والمستغفرين، قال -عزَّ وجلَّ- في الحديثِ القدسي: "لو لم تذنبوا؛ لذهبَ الله بكم، ولجاءَ بقومٍ يذنبُون ويستغفرونَ الله فيغفرُ لهم" [4]

ولهذا ربَّما كانت بعضُ الذُّنوب على الإنسانِ خيرٌ له؛ لأنها تفتح عليه بابَ ندمٍ عظيمٍ، وبابَ استغفارٍ كثيرٍ، ربَّما بدون هذا الذنب يقلُّ استغفاره، لكنه يقع في ذنبٍ و زَلَّةٍ ثمَّ يقع في قلبِه حياءٌ عظيمٌ من الله -عزَّ وجلَّ- ومراقبةٌ لله وألمٌ وندمٌ على ما وقعَ فيه من ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فيكثرُ على لسانهِ الاستغفارُ كثرةً ربَّما لا تَكثُرُ على لسانهِ لولا أنه وقع في هذا الذَّنبِ الَّذي اُبتُلِيَ به؛ ولهذا لا يزالُ العبدُ بخيرٍ مادام أنه إذا أذنبَ استغفر.

وليس في عباد الله أكثر استغفارًا من رَسول الله ﷺ، وقد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخَّر، لكنَّه مع ذلك كلِّه كان أكثر النَّاس استغفارًا؛ حتَّى قالَ أبو هريرة -رضي الله عنه-: "ما رأيتُ أحدًا أكثرَ من رسولِ الله ﷺ يقولُ: استغفرُ الله وأتُوبُ إليه" [5] وقد رأى أبو هريرة عُبَّادَ الصحابة، وخيارَ الأمة، وأكثر الناس استغفاراً، وما رأى في ذلك الجيل، أكثر من النَّبيِّ ملازمةً للاستغفار، فكان مُلازمَا للاستغفار في حياتِه كلِّها حتَّى إنَّه ختم حياتَه كلَّها بالاستغفارِ، كما جاءَ في حديث أمِّ المؤمنين عائشة قالت: [مات ﷺ بين صدري ونحري، وهو يقولُ: "اللَّهُمَّ اغفر لي وألحقنِي بالرَّفيقِ الأعلى"] [6] كانت هذه من آخر كلماتِه الَّتي فارقَ بها الدُّنيا ، الشاهد: أنَّ العبدَ تتحقق له السَّعادةُ؛ إذا اجتمعت فيه هذه الخصال الثلاثة العظيمة، ألا وهي الصَّبر والشُّكر والاستغفار.

ولعلَّ في هذه الدعوة العظيمة المباركة الَّتي دعا بها المُصنِّفُ -رحمه الله- لكَ، أن تكون فاتحة بابِ لك أن تعتني بهذه الأمور الثلاث الَّتي هي عنوان السعادة: الصَّبرُ والشُّكر، والاستغفارُ، بحيث تكون مجاهداً لنفسك على تحقيقِ هذه الأمور الثلاثة:

1. إذا كان صبرُك ضعيفًا؛ فاجتهد في تنميتِه واسأل الله -جلَّ وعلا- المعونةَ على ذلك.

2. وإذا كان شكرُك قليلاً؛ فاجتهد أيضًا في تكثيره وتقويتِه، واسأل الله -عزَّ وجلَّ- المعونةَ على ذلك. ﴿قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ﴾ [النمل:19] لا تكون شاكرًا لله -تبارك وتعالى- إلا إذا أعانك الله ويسَّرَ لك.

3. وأن تعتني بالاستغفارِ وأن تكثر من الاستغفار، وأن يكون استغفارك في مجالسك، وفي تنقلاتك، وفي حركاتِك استغفارًا كثيرًا.

فهذه كما أنها دعوة فهي لفتة مِن المُصنِّفِ -رحمه الله- إلى العناية بهذه الأمور الثلاثة الَّتي هي أبواب السَّعادة، وتكون عنايتُك بها من جهتين:

الجهة الأولى: أن تدعو لنفسك بهذا الدُّعاء أن يُيَسِّرَ لك الله -عزَّ وجلَّ- هذه الأمور الثلاثة الَّتي هي عنوان السَّعادة.

والأمرُ الثاني: أن تتبعَ الدُّعاء بفعل الأسباب؛ ذلك بأن تُجاهد نفسك على أن تكون من الَّذين إذا ابتلوا صبروا، وإذا أُنعِمَ عليهم شكروا، وإذا أذنبوا استغفروا.

علامة مرجعية (2)

المتن (الجزء 2 من 6)

اعلم أرشدَك الله لطاعتِه أنَّ الحنيفيةَ ملةَ إبراهيمَ أن تعبدَ الله وحدَه مخلصًا له الدِّين، كما قال -تعالى-: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون﴾ [الذاريات:56] فإذا عرفتَ أنَّ الله خلقكَ لعبادتِه؛ فاعلم أنَّ العبادةَ لا تُسمى عبادةَ إلا مع التَّوحيدِ، كما أن الصٍَلاةَ لا تُسمى صلاةً إلا مع الطَّهارة، فإذا عرفت أن الشركَ إذا خالطَ العبادةَ؛ أفسدها وأحبطَ العملِ، وصار صاحبُه من الخالدين في النَّار، عرفت أنَّ أهمَّ ماعليك معرفةُ ذلك؛ لعل الله أن يخلصَّك من هذه الشَّبَكةِ وهي الشِّركُ بالله الَّذي قال الله -تعالى- فيه: ﴿إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ [النساء:48] وذلك بمعرفةِ أربع قواعد ذكرها الله -تعالى- في كتابِه.

قال -رحمه الله-:

قال -رحمه الله تعالى-: "اعلم أرشدك الله لطاعته"

(اِعلم): هذه الكلمة يؤتى بها بين يدي الأمورِ العظيمة والأمور الكبار، وقد تكرر مجيئُها في كتاب الله -عزَّ وجلَّ- في التّنبيه على الأمور العظام، ومن ذلك قوله -سبحانه وتعالى-: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد:19] فهذه يُوتى بها لشدِّ الانتباه، ولفت الانتباه واستدعاء القلوب للاصغاء ووعي هذه الأمور العظيمة الكبيرة.

بعد أن دعا إلى الانتباه لما سَيُقال، وما سيُبيِّنه -رحمه الله- دعا بهذه الدَّعوة العظيمة: "أرشدَك الله لطاعته"، أرشدك: أي جعلك من أهل الرَّشاد، والرَّشادُ ضِدُّ الغواية، وقد قال الله -سبحانه وتعالى- عن نَبيِّه: ﴿ما ضلَّ صَاحِبِكُم وما غَوَىَ﴾ [النجم:2] الضَّلال ضدَّ الهداية، والغوايةُ ضدُّها الرَّشاد، وقوله: ما ضلَّ صَاحِبِكُم وما غَوَىَ، أي أنَّه سالمٌ من الضَّلال والغواية، و ذلك بأنَّه اجتمع له كمالُ العلم النَّافع، والعمل الصَّالح، وقد قال نبينا في ذكر الخلفاء الرَّاشدين: "عليكم بسُنَّتِي وسُّنَّة الخلفاءِ الرَّاشدين المهديِّين" [7] جمع لهم هاتين الخُصلتين وهما تَعنِيانِ صلاَحَ عِلم الإنسان وصلاح عِمله.

الهداية: صلاح العلم.

والرَّشاد: صلاح العمل.

قال: "أنَّ الحنيفيَّةَ ملةُ إبراهيمَ أن تعبد الله وحده مخلصا له الدين"

هذا الأمر الَّذي دعا -رحمه الله- الانتباه الى ضَبطهِ، والعلمِ به ومعرفَتِه: أن الحنيفيَّةَ التي هي ملةُ إبراهيم خَليل الرَّحمن -عليه السلام-، الَّتي أُمِرنا باتِّباعِها. وتأمَّل الآية: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل:123] فالدِّين الَّذي أُمرَنا باتباعه ولزومِه، هو الحنيفيَّةَ ملة إبراهيم؛ ولهذا كان مُتأكِّدًا على كل مسلم أن يعرف الحنيفيَّةَ ما هي، لأنَّا أُمِرنا باتباعها، ولزومها، والتَّمسك بها والمحافظةِ عليها، وأن نكون من أهلِها.

فالحنيفيَّةَ التي هي ملَّةُ إبراهيمَ: هي أن تعبد الله مخلصاً له الدين؛ ولهذا لا يكون الإنسان حنيفًا إلا إذا كان مخلصاً ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة:5] والحنفاء هو جمع: حنيف، لا يكون كذلك إلا إذا كان مخلصاً دينَه لله -تبارك وتعالى-، والحَنَفُ أصله في اللغة: الميلُ، والمراد هنا: الميلُ والعدول عن الباطل إلى الحق والهدى، والتَّوحيد والاستقامة، مائلاً عن الشركِ إلى التَّوحيد، وعن الضَّلال إلى الهُدى وعن الباطلِ إلى الحق، وعن الغوايةِ إلى الرَّشاد.

ولهذا قال المصنف -رحمه الله- كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، فالتوحيد الذي خلق الخلق لأجله وأُوجِدُوا لتحقيقه هو أن يعبدوا الله -تبارك وتعالى- مُخلصين له الدين، وهذا يتطلب منك أن تعرف: أولًا: العبادةَ ماهي، ما حقيقتُها، ما أفرادها؟ ويتطلَّب منك ثانياً: أن تجعلها كلها لله، لا تجعل لأحدٍ منها شيْئًا، أيًّا كان ومهما كان لا تجعل منها حظًًا ولا نصيبًا لا لمَلكِ مقرَّبٍ، ولا لنبِيٍّ مُرسل، ولا غيرهما، فالعبادةُ حق لله -تبارك وتعالى-.

قال: "أن تعبدَ الله مخلصًا" ومعنى مخلصاً: أي أن تكون عبادتك لله خالصة؛ أي صافية نقيَّة، ليس فيها شائبة شركٍ ولا رياء، ولا نحو ذلك، بل هي صافية لله تبارك وتعالى، قال تعالى: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ [الزمر:3] أي: الصَّافي النَّقي.

ولهذا إذا خالط العبادة نية أخرى؛ فإنَّها تَخرُجُ عن الإخْلاص، وإذا خرجت عن الإخلاصِ؛ لم تُقبل، ولهذا قال ربُّنا عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي: "أنا أغنى الشُّركاء عن الشِّركِ؛ مَن عَمِلَ عملًا أشركَ معِيَ فيه غَيرِي؛ تركتُه وشِركَه" [8]، أي أنَّه سبحانه وتعالى لا يَقبَلُ العَمَلَ إلا إذا كان صافيًا نقيًّا خالصًا لم يُرَدْ بهِ إلا الله تبارك وتعالى، فمعنى قوله ﴿إلا ليعبدون أي إلا ليوحِّدوني في العبادة، ليخصوني بالعبادة، لا يعبدوا معي غيري، يُفرِدونِي في العبادة.

قال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾

وقوله: إلا ليعبدون، العبادة فعل العبد، والله -سبحانه وتعالى- جعل في العبدِ مشيئةً، وهداه النَّجدين، طريقَ الحقِّ، وطريقَ الضَّلالِ. قال تعالى: ﴿فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ﴾ [النحل:36] فقوله "إلا ليعبدون": أي إلا ليقوموا بعبادتي، هذا الَّذي خلقهم لأجله.

قال: "فإذا عرفت أن الله خلقك لعبادته؛ فاعلم أنَّ العبادةَ لا تُسمى عبادة إلا مع التَّوحيد"

وهذا أصلٌ لابد أن يعرفه كلُّ مسلمٍ، وقد جاء عن ابن عباس -رضي الله عنه- وغيره أن: "كلَّ أمرٍ بالعبادةِ في القرآن، أمرٌ بالتَّوحيدٍ" [9]، فالعبادة إذا دخلها إشراك غير الله معه في العبادة، فهذه ليست عبادة؛ وإنَّما هو شرك، ولهذا العبادة لا تكون عبادة إلا مع التَّوحيد.

ونظَّرَ لذلك -رحمه الله- بمثالٍ يوضحُ ذلك:

قال: "اعلم أن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التَّوحيد، كما أنَّ الصَّلاة لا تُسمَّى صلاةً إلا مع الطَّهارة"

لو أنَّ إنسانًا صلَّى، وأتى بأعمال الصَّلاةِ من أولها إلى آخرها، لكنَّه على غير طهارةٍ، هل يُقال له صلًّيتَ؟ بالطبع لا، فالذي يصلي بغير طهارةٍ؛ كأنَّه ما صلَّى؛ لأنَّ الصَّلاةَ لا تكون صلاةً إلا بالطَّهارةِ، والعبادةُ لا تكون عبادة إلا مع التَّوحيدِ، فإذا كانت العبادةُ قائمةً على التَّوحيد كانت عبادةً صحيحةً مقبولةً.

وإذا كانت العبادةُ، ولو كانت كثيرةً أمضى فيها الإنسانُ حياتَه ودهرَه، إذا لم تكن قائمةً على التَّوحيد؛ فإنَّها كلَّها تذهبُ سدى، وتضيعُ هباءً. ﴿وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا﴾ [الفرقان:23] ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ○ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف:103-104]

فهذا أصلٌ عظيمٌ؛ يجب على كلِّ مسلمٍ أن يَضبِطَه. العبادةُ لا تكون عبادة إلا مع التَّوحيد، كما أنَّ الصلاة لا تكون صلاةً إلا بالطَّهارة؛ فمن عبدَ الله بغيرِ التوحيد؛ فهو مشركٌ بالله لا يقبل الله -سبحانه وتعالى- منه عبادته.

والشِّركُ في العبادة مثل السُّمِّ في الطَّعام؛ إذا وضع السُّمُّ في بعض الطعام، أفسد الطعام كله، وأتلفه أجمعه، ومَن الَّذي يقبلَ طعاماً وُضعَ في بعضِه سُمٌّ؟

العبادة لا تكون عبادة إلا مع التوحيد، بأن يكون العبدُ مُوحِّدًا لله -جلَّ وعلا- مخلصًا في عبادتِه كلِّها، وهذا يعني أن تكون:

صلاتُك لله،

حَجُّك لله،

ذَبحُك لله،

نذرُك لله،

دعاؤك تتوجه به إلى الله،

تَوَكُلُك على الله،

رَجَاؤُك من الله،

خَوْفُك من الله،

كلُّ العبادات لا تَصرف شيئًا منها إلا لله -سبحانه و تعالى-.

قال: "فإذا دخل الشَّرك في العبادة فسدت، كالحدثِ إذا دخلَ في الطَّهارة"

فالإنسان إذا كان على طهارة توضَّأ وأصبح طاهرًا، ثُمَّ أحدث؛ فكأنه ما طَهُر، والشِركُ إذا دخل في العبادة؛ أفسدها، مثلُ الحدثِ إذا دخل على الطهارة؛ فإنه يفسدها، ويجب إعادة التَّطهُّر.

المثال الذي ذكره المصنف مثال يُجلِّي هذا الأمر تجلية واضحة، مَن الذي يعرف مكانة الطَّهارة في الصَّلاةِ ثم يُقدِم على أن يصلي وعليه حدث؟!

وهذا الشبه بين الطَّهارةِ من الحدث، والطًّهارة من الشِّرك، جاءت الإشارة إليه في قوله -تبارك وتعالى-: "وثيابَك فطهِّر" قيل في معناها: طهِّر نفسَك من الشِّركِ وممَّا ينقض الدِّين، ويفسد الإيمان. وقيل في معناها: طَهر ثيابك من النَّجاسة الحسِّيةِ، "طَهِّر ثيابَك" يتناول الطَّهارة المعنوية والطٍَهارة الحسِّية. ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:3-5] الرجز أي الأصنام وعبادة غير الله -تبارك وتعالى-.

علامة مرجعية (3)

قال: "فإذا عرفت أن الشِّرْكَ إذا خالط العبادةَ أفسدها وأحبط العمل، وصار صاحبه مِن المُخلَّدِين في النَّار؛ عرفت أن أهم ما عليك، معرفة ذلك"

أي معرفة الشِّركِ، لماذا تعرفه؟ يجب علينا أن نعرف الشِّركَ من أجل أن نُنَقِى عبادتنا لله -تبارك وتعالى- منه، ونصَفِّيها منه، ونجعلَها خالصةَ ليس فيها شيء مِن الشِّرك؛ فإذًا يجب على كل مسلم أن يعرف الشِّرك؛ من أجل أن يحذره:

عرفتُ الشَّرَّ لا للشَّرِّ ولكن لتوقِّيه

فإنَّ مَن لم يعرفِ الشَّرَّ من الناس يقع فيه [10]

فإذا لم يعرف الإنسانُ الشِّرْكَ وحقيقتَه؛ ربَّما دخلَ الشِّركُ في جَوانبٍ من عِبادته؛ فأفسدَها، وهو في قرارة نفسِه لايزال يظنُّ أنَّه من أهل التَّوحيد، ومن أهل لا إله إلا الله، بينما قد أدخل على نفسهِ أعمالَا من الشِّركِ تُفسِدُ عملَه، وعبادتَه، وتحبطُ دينه.

ولهذا كان واجبًا على كلِّ مُسلمٍ أن يعرفَ الشِّركَ من أجل أن يحذر الشرك، أن يكونَ خائفًا على نفسِه من الوقوعِ في الشِّرك، وتأمَّل دعوةَ إمام الحنفاءِ إبراهيم الخليل -عليه السَّلام- قال: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ [إبراهيم:35-36] فإذًا يجب على المسلم أن يعرف الشِّركَ؛ من أجل أن يحذَره، كما أنَّه يجب عليه أن يعرف التَّوحيد؛ من أجل أن يًحقِّقَه، ويكون مِن أهلِه.

قال: "إذا عرفت أنَّ الشِّركَ إذا خالط العبادة؛ أفسدها وأحبَطَ العمل، وصار صاحبُه من المخالدين في النَّارِ"

قوله: "أحبطَ العمل" يدل عليه قول الله -تعالى- في القرآن: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ○ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ﴾ أي وحده ﴿وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الزمر: 65-66] فالشِّركُ إذا دخل العبادةَ أفسدَها وأحبطَ العملَ، وصار صاحبَه من المخلَّدين في النَّارِ؛ لقوله -تعالى-: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]

قال: "عرفتَ أنَّ أهم ما عليكَ معرفةُ ذلك"

أي معرفة الشِّرك؛ لتوقيه، ومعرفة التَّوحيد؛ لتحقِيقِه.

قال: "لعلَ الله أن يُخلِّصَكَ من هذه الشَّبكة"

وانظر هذا الوصف العجيب للشِّرك، الشِّركُ شبكة! وأنتم تعرفون أن الشَّبكة لها خيوط كثيرة، ممتدة الأطراف هنا وهناك، وإذا لامس الإنسانُ شيئًا من خيوط هذه الشَّبكة؛ اُبتُلِيَ بها، وأمسكته، وصار من أهلها، ولهذا الشِّركُ شبكة، له خيوط كثيرة وفروع كثيرة، له أنواع كثيرة وأبواب عديدة، فإذا عرفت أن الشركَ أخطرُ شيءٍ، وأنَّه إذا دخل العبادة أفسدها وأبطلها، وجب عليك أن تكون على معرفةٍ بالشِّركِ حتى تكون منه على حذرٍ وتوقٍّ، وبُعدٍ عنه.

وأيضًا هنا يفيدك هذا التعبير من المُصنِّفِ بقوله:"هذه الشَّبكة" أنَّ الشرك له مجالات كثيرة، و جوانب عديدة، من خلالها يُصطادُ النَّاس، و يَخرُجُونَ عن الإخلاص والصَّفاء في العبادةِ لله -تبارك وتعالى- إلى الوقوع في شبكةِ الشِّركِ والعياذ بالله.

قوله -رحمه الله-: "لعلَّ الله أن يُخلِّصَكَ مِن هذه الشَّبكةِ" وهي الشِّرك بالله، يتطلَّبُ منك -كما قدمت- وأعيدُ ذلك؛ لأهمِّيَتِه:

أن تعرف الشِّركَ.

وأن تكون منه على حذر.

وأن تسال الله -عزَّ وجلَّ- أن يعيذك منه.

قد جاء في دعاءٍ عظيمٍ للنَّبيُّ ﷺ عندما قال: "يا أبا بكرٍ ، لَلشِّركُ فيكم أخْفى من دبيبِ النَّملِ والذي نفسي بيدِه ، لَلشِّركُ أخْفى من دَبيبِ النَّملِ ، ألا أدُلُّك على شيءٍ إذا فعلتَه ذهب عنك قليلهُ و كثيرهُ ؟ قل: اللهم إني أعوذُ بك أن أشرِكَ بك و أنا أعلمُ ، و أستغفِرُك لما لا أَعلمُ". [11] فيدعو الإنسانُ ربَّه -جلَّ وعلا- أن يخلِّصَه من الشِّركِ. ويَعرِفَ الشِّركَ، ويكونَ مِنه على حذر.

قال: "وهي الشِّركُ بالله الذي قال الله تعالى فيه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾"

توَّعد -تبارك وتعالى- المشرك الَّذي يموت على الشِّرك، ويلقى الله -سبحانه وتعالى- مشركًا، بأنَّه لا يغفر له، بل يعذِّبُه في النَّار، ويخلِّده فيها أبدَ الآبادِ، ولا مطمع له في رحمةِ الله أبداً إذا مات على الشِّرك بالله -جلَّ وعلا-، ولهذا قال الله -تعالى-: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾ [فاطر:36] فالكافر المشرك يَدخُل يوم القيامةِ النَّار، ويُخلَّدُ فيها أبد الآباد ولا يخفف عنه من عذابها، لا يُخفف العذاب، بل إنَّه يزيد؛ ولهذا -قال جلَّ وعلا- في سورة النَّبأِ: ﴿فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا﴾ [النبأ: 30] ولهذا قال بعض المفسرين: "إن أشدَّ آية على أهل النَّارِ، هي قول الله -تعالى-: فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا"؛ لأنَّهم عندما يدخلون النَّار لايزالون عندهم بعضُ الآمال:

من الآمال: أن يُعادوا إلى الدُّنيا مرةً ثانيةً، ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ [فاطر: 37]

من الآمال: أن يُقضى عليهم؛ فيموتوا. ويسلموا من هذا العذاب، ومن هذه الشدائد.

ومن الآمال: أن يُخفف عنهم العذابُ ولو قليلاً. ثم يأتيهم هذا الأمر الَّذي يقطع عليهم كل الآمال: فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا؛ أي لن تنالوا في النار إلا زيادةَ العذاب، لا ينقطع، ولا يُخفف، أجارنا الله وآجركم، ووقانا ووقاكم.

فإذاً يجب على العبد أن يكون على غاية الحذر من هذا الشرك الَّذي هو أخطر أمرٍ، وأعظم أمرٍ ؛ نهى الله -سبحانه وتعالى- عبادَه عنه، ولهذا أول أمرٍ يصادفُك في القرآن هو الأمر بالعبادة، وأول نهي يصادفك في القرآن النهي عن الشِّركِ: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22] هذا أول شيءٍ نهى الله عنه في القرآن الكريم.

ثم قال -رحمه الله- : "وذلك بمعرفةِ أربع قواعد ذكرَها الله في كتابِه"

وانتبه لقوله -رحمه الله- "ذكرها الله في كتابه"؛ لتعلم من خلال ذلك أن الرَّجل -رحمة الله عليه- لا يأتي بشيءٍ من نفسه، لا يتكلف شيئًا من نفسه، وإنَّما يجمع للناس ما جاء في القرآن، وما جاء في سّنَّةِ النَّبِيٍ الكريم ﷺ، قال: وذلك بمعرفةِ أربع قواعد ذكرَها الله في كتابِه، ثم ذكرها قاعدة قاعدة، وذاكرًا مع كل قاعدة دليلَهَا وشاهدَها من كتاب الله -عزَّ وجلَّ-، وهي قواعد عظيمة جليلة كبيرة ينبغي على كل مسلم ومسلمةٍ أن يحفظها.

والحديثُ له صلةٌ إن شاء الله، والله أعلم وصلَّى الله وسلَّم على عبد الله ورسولِه نبيِّنا مُحَمَّدٍ وآلِه وصحبِه أجمعين.

الهوامش

[*] الشيخ عبد الرزاق البدر -حفظه الله- نوّه بأنه لا يُسمَحُ بنشر التفريغات المنشورة على مجموعات التليجرام، لأنه لم يراجعها، فقمنا -نحن فريق إدارة الموقع- بسماع الدروس وكتابتها وتنسيقها وتحريرها وتدقيقها واختصار التكرارات فيها حتى لا يملّ القارئ، اختصاراً موجزاً لا يُخلُّ بالمعنى، ولا يَحذِفُ فائدة، ولا يُخفي معلومة، وقمنا بإضافة هامش لعرض مصادر الأحاديث التي يذكرها الشيخ والفوائد والقصص كلما أمكن ذلك.

[1] الحديث: "عجبًا لأمرِ المؤمنِ إنَّ أمرَه كلَّه خيرٌ إنْ أصابَتْه سرَّاءُ شكَر وإنْ أصابَتْه ضرَّاءُ صبَر وكان خيرًا له وليس ذلك لأحدٍ إلَّا للمؤمنِ".

الراوي: صهيب / المحدث: ابن حبان / المصدر: صحيح ابن حبان / الصفحة أو الرقم: 2896 / خلاصة حكم المحدث: [أخرجه في صحيحه] / التخريج: أخرجه مسلم (2999) باختلاف يسير

[2] عَنِ النبيِّ ﷺ، فِيما يَحْكِي عن رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قالَ: أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فأذْنَبَ، فَقالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فأذْنَبَ فَقالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، اعْمَلْ ما شِئْتَ فقَدْ غَفَرْتُ لَكَ، قالَ عبدُ الأعْلَى: لا أَدْرِي أَقالَ في الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ: اعْمَلْ ما شِئْتَ.

الراوي: أبو هريرة / المحدث: مسلم / المصدر: صحيح مسلم / الصفحة أو الرقم: 2758 / خلاصة حكم المحدث: [صحيح]

[3] الحديث: "كلُّ بني آدمَ خطَّاءٌ ، و خيرُ الخطائين التوابونَ" [حديث حسن، صحيح الجامع]

[3أ] قد روى أبو نعيم أَنَّ سُلَيْمَانَ بن يسار ، قَالَ لِابْنِهِ: "يَا بُنَيَّ لَا تَعْجَبْ مِمَّنْ هَلَكَ كَيْفَ هَلَكَ، وَلَكِنِ اعْجَبْ مِمَّنْ نَجَا كَيْفَ نَجَا، يَا بُنَيَّ لَا غِنَى أَفْضَلُ مِنْ صِحَّةِ جِسْمٍ، وَلَا نَعِيمَ أَفْضَلُ مِنْ قُرَّةِ عَيْنٍ".

[الحلية (3/ 72)]

[4]

"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ الله بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ، فَيَغْفِرُ لهمْ."

الراوي: أبو هريرة / المحدث: مسلم / المصدر: صحيح مسلم / الصفحة أو الرقم: 2749 / خلاصة حكم المحدث: [صحيح]

[5] الحديث: "ما رأَيْتُ أحَدًا أكثَرَ لِأنْ يقولَ : أستغفِرُ اللهَ وأتوبُ إليه مِن رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم" [صحيح ابن حبان]

[6] الحديث: "كانَ النَّبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ يتعَوَّذُ بِهَؤلاءِ الكلِماتِ أذهبِ البأسَ ربَّ النَّاسِ واشفِ أنتَ الشَّافي لا شفاءَ إلَّا شفاؤُكَ شفاءً لا يغادِرُ سَقمًا فلمَّا ثقُلَ النَّبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ في مَرضِهِ الَّذي ماتَ فيهِ أخَذتُ بيدِهِ فجعَلتُ أمسَحُهُ وأقولُها فنَزَعَ يدَهُ مِن يدي ثمَّ قالَ اللَّهُمَّ اغفِر لي وألحِقني بالرَّفيقِ الأعلَى قالَت فَكانَ هذا آخرَ ما سَمِعْتُ مِن كلامِهِ صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ" [صحيح ابن ماجه]

[7] الحديث: "عليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخلفاءِ الراشدِين المهدِيِّينَ مِن بعدي" [صحيح، الفتح الرباني]

[8] الحديث القدسي: "قالَ الله تَبارَكَ وتَعالَى: أنا أغْنَى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَن عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فيه مَعِي غيرِي، تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ." [صحيح مسلم]

[9] ورد في [تفسير البغوي] تفسير الآية ٢١ من سورة البقرة

[10]

أبيات شعر لأبو فراس الحمداني

عَرَفتُ الشَرَّ لا لِلشَررِ لَكِن لِتَوَقّيهِ
وَمَن لَم يَعرِفِ الشَرَّمِنَ الخَيرِ يَقَع فيهِ

[11] الحديث: "يا أبا بكرٍ ، لَلشِّركُ فيكم أخْفى من دبيبِ النَّملِ والذي نفسي بيدِه ، لَلشِّركُ أخْفى من دَبيبِ النَّملِ ، ألا أدُلُّك على شيءٍ إذا فعلتَه ذهب عنك قليلهُ و كثيرهُ ؟ قل : اللهم إني أعوذُ بك أن أشرِكَ بك و أنا أعلمُ ، و أستغفِرُك لما لا أَعلمُ" [صحيح، صحيح الأدب المفرد]