في هذا الدرس

كان شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى- كثيراً ما يقول: “من فارق الدليل ضل السبيل، ولا دليل إلا بما جاء به الرسول ﷺ”

فضيلة الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

مختصر شرح الشيخ [*]

بسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ

إنَّ الحمدَ لله نحمَده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسِنا وسيِّئاتِ أعمالِنا من يهدِه الله؛ فلا مُضلَ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهدُ أنَّ مُحمَّدًا عبدُه ورسولُه ﷺ وعلى آله وأصحابِه أجمعين. نعم.

قال شيخ الإسلام الإمام مُحمَّد بن عبد الوهَّاب -رحمه الله وغفر له- في كتابه: القواعدُ الأربع:

المتن (الجزء 3 من 6)

القاعدة الأولى

أن تعلم أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله ﷺ مُقِرُّونَ بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المدبر وأن ذلك لم يدخلهم في الإسلام، والدليل قوله تعالى:

﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [يونس: 31]

فهذه قَواعدٍ أربعة جَمعَها المُصَنف -رحمه الله تعالى - في هذه الرسالة التي اُشتهرت بالقواعد الأربع؛ لأنها جمعت أربع قواعدٍ عظيمة جدًا، ومهمةً يحتاج إليها كل مسلم، لأنه بمعرفة هذه القواعد يَميزُ المسلم بين الحقٍّ والباطل، بين التوحيد والشرك، والهدى والضلال، ولا تَلتبسُ عليه الأمور، ولا تَنطلي عليه شُبهات المضلَّين وأضاليل المبطلين، بل إن هذه القواعد تكون له بإذن الله -عز وجل- نعم العون على المحافظة على التوحيد الصحيح والإيمان الراسخ، والبعد عن الشرك الذي هو أعظم الذنوب، وأظلمُ الظلم.

وكل مسلم قرأَ مَا جاءَ في القرآن الكريمِ، وسنَّة النبيِّ ﷺ من الوعيد للمشركين والتهديدِ لهم، والعقوبات التي أعدها الله تبارك وتعالى لهم يخاف من الشرك أعظمُ الخوف، ويُحاذِره أشدَّ المُحاذرة، ويحتاط لنفسه من أن يقع فيه أو في شيء من جوانبهِ.

وكما قدَّمت فإن المصنف -رحمه الله تعالى- لا يبني شيئاً من أمور الدين إلا على: (قال الله، قال رسوله ﷺ)؛ ولهذا جاءت عامة كتبه قائمة على هذا الأصل، يَذكرُ الحُكْمَ مضموماً إليه دليلهُ من كتاب الله -عز وجل- وسنة نبيه ، وهذه الطريقة هي الطريقة الصحيحة التي ينبغي أن يكون عليها كل مسلم في عقيدته ودينه؛ إذ كيف تُعرف العقيدة الصحيحة، والإيمان القويم بغير الاعتماد على كلام الله، وكلام رسوله صلوات الله وسلامه عليه. وكما قال من قال من أهل العلم: كيف يُرام الوصول الى علم الأصول بغير معرفة ما جاء به الرسول ﷺ؟

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى- كثيرا ما يقول: "من فارق الدليل ضل السبيل ولا دليل إلا بما جاء به الرسول ﷺ" [1]، فهذه جادَّةٌ مُباركة وطريقٌ قَويمة كان عليها الإمام المجدد -رحمه الله تعالى- وكان عليها أئمة أهل العلم من قبله، وكذا من بعده، يقيمون أمور الدين على: قال الله، قال رسوله ، ولهذا قال لك هنا: "وذلك بمعرفة قواعد أربعة ذكرها الله -تعالى- في كتابه" ثم شرع في ذكرها قاعدة تلو الأخرى.

بدأ بالقاعده الأولى:

قال: "أَن تَعْلَمَ أَنَّ الكُّفَّارَ الَّذينَ قَاتَلَهم رَسولُ الله ﷺ مٌقِرُّونَ بَأنَّ الله -تعالى- هو الخَالِقُ المُدبِّر، وأنَّ ذَلكَ لمْ يُدْخِلْهم فِي الإِسْلامِ"

وهذا أيها الأخوة أصل عظيم وقاعدة مهمة جداً في هذا الباب؛ أن نعلم أن الكفار المشركين الذين ورد ذمهم في آيات كثيرة من القرآن الكريم، وقاتلهم النبي ﷺ، واستباح أموالهم، وقاتلهم صلوات الله وسلامه عليه، كانوا مقرين بأن الخالق الرازق المنعم هو الله -تبارك وتعالى- ما كانوا يقولون أن الذي يخلق هو الأصنام، أو الذي يرزق هو الأصنام، أو الذي يعطي ويمنع هو الأصنام، ما كانوا يقولون ذلك، بل يقولون الخالق الله، الرازق الله، المنعم الله، المدبر الله، كانوا يقولون ذلك ويُقرُّون به، والله -سبحانه وتعالى- بَيَّن لنا إقرار المشركين بأن الخالقَ هو الله -تبارك وتعالى- في آيات كثيرة من القرآن، ولم يُدخِلهم هذا الإقرار في الإسلام كما بين ذلك المصنف -رحمه الله-؛ لأن الدخول في الإسلام لا يكون بمجرد الإقرار بربوبية الله وأنه -عزَّ وجلَّ- الخالق الرازق المنعم المتصرف بل لابد مع ذلك من الإتيان بلازمِ هذا الإقرار، ألا وهو: أن يُفرَدَ -تبارك وتعالى- بالعبادة، وأن يُخصَّ وحده بالطاعة. وألا يُجعَلَ معه شريك، وأن يُخْلَصَ الدِّينُ له -جل وعلا-، كما قال سبحانه: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: 5]

وكما قال جلَّ وعلا: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: 36]

وكما قال جلَّ وعلا: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: 23]

وكما قال جلَّ وعلا: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]

وكما قال جلَّ وعلا: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [الأنعام: 151]

وكما قال جلَّ وعلا: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ [الزمر: 3]

وكما قال جلَّ وعلا: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 22]

والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً.

فلا يكون المرء موحداً لله -عزَّ وجلَّ- إلا اذا أخلص العبادة لله، لا بمجرد إقراره بأن الرب الله، والخالق الله، والرازق الله، والمنعم الله، هذه وحدها ليست كافية لأن يكون بها العبد موحداً، إذ لا يكون موحداً إلا إذا جاء بالتوحيد العملي الذي هو إخلاص العبادة لله -تبارك وتعالى- وإفراده بالعبادة دون سواه؛ بألا يدعو إلا الله ولا يستغيثُ إلا بالله، ولا يصلي ويسجد ويركع إلا لله، ولا يذبحُ وينذر إلا لله، ولا يتوكل ويرجو ويخاف إلا من الله، ولا يصرف شيئاً من العبادة إلا له -عزَّ وجلَّ-، كما قال سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ○ لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ﴾ [الأنعام: 162-163] وبذلك أمرتُ، أي بهذا التوحيد وهذا الإخلاص لله -عزَّ وجلَّ- وقال الله -تبارك وتعالى- : ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ○ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ○ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: 65-67]

لما كانت هذه الرسالة، رسالةً مختصرة لا تحتمل الاستيعاب وبسط الدلائل والشواهد، اكتفي بذكر دليلٍ واحد من دلائل القرآن الكريم على أن الكفار المشركين الذين قاتلهم النبي ﷺ كانوا مقرين بأن الخالق هو الله -تبارك وتعالى-، فسَاقَ ما جاء في سورة يونس قول الله -عز وجل-: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ﴾ قل -أيها النبي- للمشركين: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَمَن يُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَىِّ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلْأَمْرَ﴾ [يونس:31] سل المشركين الذين يعبدون الأصنام؟ والذين اتخذوا الآلهة والأنداد، وعبدوا مع الله -تبارك وتعالى- غيره، سلهم وقل لهم: مَن يرزقكم من السماء والأرض؟ من الذي يَمُنُّ عَليكُم بالرزق من السماء ومن الأرض بإخراج النباتات والزروع؟ هل يقولون إن الذي يرزقنا من السماء والأرض هو الأصنام؟ لا يقولون ذلك، بل يعتقدون أن الأصنام ليست خالقة، ولا رازِقة ولا مدبرة ولا متصرفة، ﴿فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾ [يونس:31] أي سيقول المشركون الكفار إذا سألتهم هذا السؤال، سيقولون الذي يرزقك من السماء والأرض، والذي يملك السمع والبصر، والذي يُخرج الحي من الميت، ويُخرج الميت من الحي، والذي يدبر الأمر هو الله - تبارك وتعالى-، ﴿فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [يونس:31] إذا قالوا أنَّ الذي يخلق هذه الأشياء ويدبر هذه الأمور هو الله، فقل لهم ألا تتقون الله؟! لماذا تتخذون معه الأنداد؟ وتتخذون معه الشركاء؟ وأنتم تقرُّون أنه لا خالق لكم غير الله، ولا مُدبِّر للأمر غير الله، ولا مالك إلا الله؛ ألا تَتَّقُون الله؟ فتُفْرِدُونَهُ بالتوحيد، وتَخُصُّونَهُ بالطَّاعة وتُخلِصُونَ له الدين وقد أقررتم أنه خَالقِكُم ورازقِكُم والمدبِّرُ للأمور كلها، فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ؛ أي بترك الشرك والبعد عن الكفر وبالإخلاص لله -تبارك وتعالى- بالعبادةِ والتوحيد، فهذه الآية ولها نظائر كثيرة جداً في كتاب الله -جل وعلا- تركها المصنف مراعاة للاختصار في هذه الرسالة، كلها تشهد وتدل على أن المشركين كانوا يُقِرُّون بأن الخالق، الرازق، المنعم، المتصرف هو الله -تبارك وتعالى-.

علامة مرجعية (1)

ويأتي هنا سؤالٌ قرَّرَ من خلاله المُصنِّف -رحمه الله- هذه القاعدة، هل إقرار المشركين بأن الخالق، الرازق، المنعم، المالك، هو الله، هل هذا الإقرار أدخلهم في التوحيد والإسلام؟ أم هم مع هذا الإقرار مشركون بالله كُفار؟ انظر الجواب على هذا السؤال في قوله -تبارك وتعالى-: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُون﴾ [سورة يوسف: 106] أي إلا وهم مشركون معه في العبادة؛ يُقرُّون بأنه الخالق، ولكن يَدْعُون غيره، ويتوكلون على غيره، ويذبحون لغيره، ويصرفون أنواعاً من العبادة لغيره، هذا معنى قوله: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ، وأيضا قوله -تعالى- في سورة البقرة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [سورة البقرة: 21-22] ما معنى قوله ﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾؟ والخطاب للمشركين، تعلمون ماذا؟ تعلمون أنه لا خالق لكم ولا رازق غير الله.

هنا ينبغي أن نفهم من هذه القاعدة العظيمة التي ذكرها -رحمه الله- أن إقرار المرء بأن الخالق الرازق المُنعم المُتصرف هو الله -تبارك وتعالى- هذا وحده لا يكفي لأن يكون به موحِّداً، بل لا يكون موحدًا لله إلا إذا أتى بلازمه، ألا وهو: إفراد الله -تبارك وتعالى- بالعبادة، وإخلاص الدين له، كما قال ربنا -جلَّ وعلا-: ﴿وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [سورة الأنبياء: 92] أي: اعبدوا الربَّ الذي تفرد بالخلق والرَّزَق، والمُلكِ، والإحياء، والتَّدبِير، والتَّصرُّفِ؛ أفْرِدُوه وحده -تبارك وتعالى- بالعبادة.

ولهذا كانت هذه الحقيقة التي قرَّرَها القُرآن، واهتدى إليها بعض المشركين، كانت سبباً لهدايتهم وتركهم لعبادةِ الأوثان، وتَخلُّصهم من عبادة الأصنام التي لا تملك شيئا ولا تملك ضُرَّاً، ولا عطاءً، ولا نفعاً، مثل قصة عمرو بن الجموح قصة عجيبة كانت سبب إسلامه، وكان سيِّداً في قومه، وكان قد خصَّ نفسه بصنم عنده في البيت محتفياً به، معتنياً به؛ يطيبه وينظفه ويجمِّله، ويضعه في مكان جميل في البيت، وكان كلما دخل إلى بيته، عبد هذا الصنم، فمنَّ الله -تبارك وتعالى- على ابنه معاذ بالإسلام، وعلى بعض صغارِ الأنصار، فوضعوا خطة ليوضحوا من خلالها لعمرو بن الجموح أن هذه الأصنام لا تستحق هذه العبادة، -مثل الخطة التي قام بها إمامُ الحنفاءِ الخليل إبراهيم عليه السلام- فجاءوا في الليل وأخذوا الصنم، وذهبوا به إلى المكان الذي تُقضَى فيه الحاجة، ووضعوا الصنم مُنكَّساً على رأسه فوق العَذِرة. فلما أصبح يُريد أن يَعبُد ذلك الصنم؛ أخذ يبحث عنه ما وجده؛ فأخذ يبحث عنه في البيت هنا وهناك، إلى أن وجده مُنكَّسًا على رأسه فوق العَذِرة؛ فغضب من هذا المنظر ولا يزال قلبه متعلقًا بهذا الصنم؛ فأخذه وغسله بنفسه وأزال عنه الوسخ بيده ونظفه ثم وضعه أمامه، وقام على عبادته!

ثُمَّ أعادوا الكَرَّةَ مرة ثانية، وأيضاً بحث عنه، ووجده بهذه الصفة، ونظفه وأعاده إلى مكانه، واستمر على عبادته، وفي المرة الثالثة لمّا أعاد الصنم إلى مكانه، جاء في الليل ووضع بجانب الصنم سيفاً، وقال: إن كنت صادقاً، دافع عن نفسك، يعني إلى متى أنا الذي أدافع عنك؟ وأنا الذي أبحث عنك وأُنظِّفُك؟ دافع أنت عن نفسك، فجاءوا في الليل وأخذوا الصنم بالسيف، وذهبوا إلى المكان الذي تُلقِي فيه النساء الحيضَ والقاذورات، وربطوا في عنقِه كلبًا ميتًا، وأخذوا السيف ورموه في هذا المكان، وأخذ يبحث عنه، ثم وجده بهذه الصفة. وحينئذٍ طابت نفسُه لمَّا تقرر عنده هذا الأمر، إذا كان لا ينفع نفسه، كيف ينفعني؟ إذا كان لا يملك لنفسه دفعاً ولا نفعاً ولاعطاءً ولا منعاً؛ لماذا أعبده؟ لماذا أبكي عنده، لماذا أرجوه؟ لماذا أمدُّ يدي عنده أدعوه وهو لا يملك شيئًا لنفسه؟ كيف يملك لي شيئا وهو لا يملك شيئا لنفسه؟

مثلُ هذه القصة أيضاً قصة رجل من المشركين، سافر إلى مكان بعيد، ومعه أغنامه، إلى صنم من الأصنام؛ وهو يريد أن يدعوه، يسأله ويعرض عليه حاجاته، ولما وصل إلى الصنم فوجئ أن فوق الصنم ثعلب، والثعلب يبول، والبول ينزل من فوق رأس الصنم إلى أسفل قدميه، يصب البول من فوق رأس الصنم إلى أسفل القدمين؛ فهاله المنظر، ثم قال بيتًا:

أَرَبٌّ يبولُ الثعلبانُ برأسِه؟! *** لقد هان مَن بالت عليه الثَّعَالِبُ [2]

إذاً هذه القاعدة، القاعدة الأولى، قرر فيها -رحمه الله تعالى- أن إقرار العبد بأن الخالق الرازق المُنعم المُتصرف المُدبر هو الله؛ هذا وحده لا يكفيه بأن يكون به موحداً، بل لابد مع ذلك أن يقر وأن يأتي بلازم ذلك وهو: توحيد الله بالعبادة وإخلاص الدين له -عز وجل-.

المتن (الجزء 4 من 6)

القاعدة الثانية

أنهم يقولون ما دعوناهم وتوجّهنا إليهم إلا لطلب القربة والشفاعة، فدليل القربة، قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ [الزمر:3]، ودليل الشَّفاعة قوله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ۚ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس:18]، والشفاعة شفاعتان:شفاعة منفية، وشفاعة مثبتة.

فالشفاعة المنفية: ما كانت تُطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله والدليل قوله -تعالى-:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ۗ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة:254]

والشفاعة المثبتة: هي التي تُطلب من الله، والشافعُ مكرم بالشفاعة، والمشفوع له مَن رضي اللهُ قولَه وعملَه بعد الإذن كما قال -تعالى-:

﴿مَن ذَا ٱلَّذِي يَشفَعُ عِندَهُۥ إِلَّا بِإِذنِهِ﴾ [البقرة:255]


وهذه هي القاعدة الثانية، وهي قاعدة عظيمة ومهمة جداً وهي مُتمِّمَة ومكملة للقاعدة الأولى؛ وذلك أننا عرفنا في القاعدة الأولى أن المشركين الذين بُعث فيهم رسول الله كانوا يقرون بأن الخالق الرازق المنعم المتصرف هو الله -تبارك وتعالى- وأن هذا لا يدخلهم في الإسلام.
إذًن يأتي سؤال يطرح نفسه، إذا كانوا يُقرُّون بأن الذي يخلق ويرزق ويُنعم ويتصرف ويُدبِّر الأمر هو الله -تبارك وتعالى-؛ فلماذا يعبدون هذه الأصنام؟ لماذا يتجهون إليها بالسؤال؟ لماذا يبكون عندها، ويتضرعون إليها و يُلِحُّون عليها بالطلب؟ يأتي الجواب في هذه القاعدة.

قال: القاعدة الثانية:"أنَّهم يقُولونَ ما دعوناَهُم وتوجَّهناَ إِليهم؛ إلا لطَلبِ القربةِ والشفاعةِ"

المشركون يقولون نحن لم نتَّجه إلى هذه الأصنام، ولم نَدْعُهَا لأنها تَخلُق أو تَرزُق، أو لأنَّها تُحيي؛ هذه أمور ليست إلا لله -تبارك وتعالى-، يقولون نحن لم نعبدها إلا للقربةِ والشفاعة، ما معنى القُربة: أي لتكون وسيلة لنا عند الله -تبارك وتعالى-، لنتوسل بها إلى الله، نطلب منها هي أن تقربنا إلى الله، نعبُدُها من أجل أن تكون واسطة لنا عند الله -تبارك وتعالى-، ما الدليل على أن المشركين كانوا يعبدون الأصنام لهذا السبب بعينه، ولهذا الغرض بذاته؟ وقد عرفنا أن المصنف التزم في بداية هذه القواعد أن يذكر دليلها من القرآن:

قال: فدليل القُربةِ قوله -تعالى-: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ﴾

علامة مرجعية (2)

الآن يأتيك السبب: ﴿إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ أي من أجل أن تقربنا إلى الله -سبحانه وتعالى-، يقولون نحن أهل ذنوب وأهل خطايا، وأهل إسراف على أنفسنا، وهذه -الأصنام- فاضلة وكريمة ولها منزلة عند الله ومكانة؛ فنحن نعبدها ونتوسل إليها من أجل أن تقربنا إلى الله -عز وجل-.

قال: دليل القُربة، قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾

سمَّى الله هذه الأمور (اتخاذ الأنداد والوسطاء بينهم وبين الله) كفراً به -جلَّ وعلا-.

الأمر الثاني وهو الشفاعة، ما دليله، أي ما الدليل على أنهم عبدوها؛ لتكون لهم شافعة عند الله -عز وجل-؟ ما الدليل على ذلك؟ قال قول الله -عز وجل-: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ﴾ -أي الكفار المشركون- ﴿وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ﴾ أي نحن عبدنا هذه التي لا تضر ولا تنفع؛ من أجل أن تكون شافعاً لنا عند الله -تبارك وتعالى-.

إذاً هذه قاعدة مهمة ينبغي أن يفهم المسلم حتى لا يُلبَّس عليه الأمر، وحتى لا يَقَعَ في الشرك من حيث أراد الحق والهدى، حتى لا يأتيه بعض المُبطلين ويلبسون عليه هذه الحقيقة ويوقعونه في الشرك بالله من حيث أراد لنفسه الخير والهدى، ويقولون له هذه الأصنام، أو هذه المعبودات، أو هذه القِباب، وهذه الأضرحة، إنما تُدعى ويُتَوجه إليها؛ من أجل أن تكون واسطة بيننا وبين الله -عزَّ وجلَّ- تقربنا إليه زلفى، يُقال له هذا الأمر، هو الذي لأجله عَبَدَ الكفار المشركون الأصنام، فتوجهوا إليها بالدعاء والرجاء، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله.

ثم انطلق المصنف من هذا الموضع؛ ليبين -رحمة الله عليه- أنَّ الشَّفاعة نوعان؛ حتَّى لا يلتبس باب الشفاعة، وأمر الشفاعة عند المسلم:

قال: "والشفاعة شفاعتان: شفاعةمنفية، وشفاعة مثبتة"

ما معنى شفاعة منفية، وشفاعة مثبتة؟

منفية: أي نفاها الله،

مثبتة: أي أثبتها الله في القرآن،

عندما تقرأ الآيات التي جاء فيها ذكر الشفاعة، تجد أن في القرآن الكريم، شفاعة منفية، وشفاعة مثبتة، فإذا كان القرآن الكريم فيه شفاعة منفية، وشفاعة مثبتة، هل نحن نجعل الشفاعات كلها مثبتة؟ أو ننفي ما نفاه الله منها، ونثبت ما أثبته؟ انتبهوا؛ هنا قاعدة مهمة جداً في باب الشفاعة.

الواجب علينا أن ننفي مانفاه الله، وأن نُثبت ما أثبته الله -سبحانه وتعالى- أمَّا والعياذ بالله أن يثبت الإنسان من الشفاعة ما نفاه الله، هذا هو عين الباطل والضلال.

قال: "فالشفاعة المنفية، ما كانت تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، والدليل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ۗ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254]

ماهي الشفاعة التي نفاها الله وأبطلها في القرآن؟ قال: "ما كانت تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله"، لو قال قائل لمخلوقٍ كائنا من كان: أسالك أن تدخلني الجنة، أو أن تجيرني من النار، أو أن تثبتني على الإيمان، أو أن تعصمني من الخطأ، أو أن تهديني سواء السبيل، أو أن تُجنبني مضلات الفتن، أو أن تصلح لي ذُرِّيتي، أو أن تَمُنَّ عليَّ بالزوجة الصالحة، أو تَمُنَّ عليَّ بالذرية الصالحة، أو أن تكتب لي رزقاً، ومُلكاً .. إلى آخره، من قدَّم هذه الطَّلبات لمخلوق من المخلوقات كائناً مَن كان، مهما علت درجته، وبلغت منزلته، ما كانت تُطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله. هذه شفاعة نفاها الله في القرآن، ما الدليل على أن الله نفاها في القرآن؟ مضى المصنف على طريقته يذكر الأمر بدليله، قال: والدليل قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ هنا "ولا شفاعة" نفي، نفاها الله، إذًا هذه شفاعة نفاها الله -سبحانه وتعالى- وأبطلها، وهي ما يُطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله.

لو وقف رجلٌ أمامَ ضريحٍ من الأضرحة، أو قبة من القباب، وقال باكياً، راجياً: ياسيدي فلان، أو يافلان أرجو أن تمن عليَّ بالولد والذرية، أنا عقيم، مثل ما كان بعض الجاهليِّين يطوفون حول شجرة، تطوف المرأة على شجرة وتقول: "يا فحل الفحول أريد ولدًا قبل الحول"، يعني قبل أن تتم السنة، (تنادي الشجرة!) من نادى شجرةً، أو ضريحاً، أو قبَّةً، أو وليًّا، أو نبيًّا، أو ملكاً، أو غير ذلك؛ يطلب منه الذرية الصالحة، الأنبياء عندما كانوا يطلبون الذرية الصالحة لأنفسهم، ممن يطلبونها؟ اقرأوا ذلك في آياتٍ كثيرة من القرآن الكريم، في قصة إبراهيم، وقصة زكريا وقصص كثيرة للأنبياء، ما كانوا يطلبون إلا من الله، مَن طلب الذرية أو الزوجة أو الهداية أوالصلاح أو الثبات أو الاستقامة، أو كشف الكُربات وإزالة الهموم، بعض الناس يخاطب بعض المقبورين، يقول: يا كاشف الغم يا مجيب المكروب، يا مغيث الملهوف، يا جابر الكسير، أنا طريح عند بابك، أنا لائذ بجنابك، إن لم تأخذ بيدي، من الذي يأخذ بيدي، يناجي مخلوقاً!

﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل: 62]

هذه أمور لله لا يُلجأ فيها إلا إليه -سبحانه وتعالى-.

إذًا الشفاعة التي نفاها الله -تبارك وتعالى- في القرآن الكريم، هي ما يُطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله -سبحانه وتعالى-، إذا كان الناس في الفلك، وتلاطمت بهم الأمواج، وأدركهم الغرق، مَن الذي يوقف الرياح، ويهدِّئ الأمواج، ويُسكِّنُ السفينة؟ مَن هو؟ الله ربُّ العالمين.

والله - عز وجل- ذكر عن المشركين أهل الشرك قال: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ [العنكبوت: 65] يعرفون وهم في تلاطم الأمواج، وفي الشدائد أن الذي ينجِّي من الشدائد هو الله، وليست الأصنام؛ فلهذا كانوا يخلصون لله -تبارك وتعالى- في الشدة، ويشركون في الرخاء.

مع أن بعض المشركين في الأزمان المتاخرة الذين تعلقوا بغير الله من الأنداد، والأولياء، والقِباب، حتى في الشدائد وفي الكُرُبات يفزعون إلى تلك المعبودات، و لهذا قرأت في بعض الكتب: أن جماعة كانوا في سفينة، وكان معهم رجل مسنّ على التوحيد والفطرة، ففجأة السفينة تتلاطم؛ وبدأ كلٌّ يهتف بمعبوده: ياسيدي فلان، يا مولاي، يا فلان، يناجون المخلوقين، فالتفت هذا الرجل إلى مَن على السفينة، فإذا ليس فيهم مَن يناجي الله؛ فمدَّ يديه وقال: يارب أغرق أغرق؛ فما على السفينة مَن يعبدك، كلهم يدعون غيرك.

المشركون في مثل هذه الحالة الذين بُعث فيهم النبي ﷺ ما كانوا يلتجئون في مثل هذه الشدة إلا إلى الله -سبحانه وتعالى- ولهذا قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ إذًا الشفاعة المنفية هي ما يُطلب من غير الله في ما لا يقدر عليه إلا الله.

أذكر لكم الآن مثالا ننظر فيه هل هو من الشفاعة المثبتة أو من المنفية؟ بعض الزُّوَّار يأتي إلى المدينة ومعه خِطابات من بعض الناس في بلده موجهة إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- خطاب مُوجه إلى النبي أنا اطلعت على شيء منها، أحدهم قرأت كلامه بلفظه، يقول: "يا رسول الله، يا سيدي، يا مولاي، يا كذا ألقاب يذكرها، أنا عبد كسير، وفقير ذليل ومحتاج كذا، وأنا لائذٌ بك، وملتجئ إليك؛ فلا ترد طلبي، ولا ترد حاجتي، ثم ذكر حاجته"، ذكر أنه يريد زوجة صالحة، ويريد فيلا جميلة، ويريد مالاً، وذكر أشياء لكن أحفظ منها، الزوجة الصالحة والفيلا الجميلة، ويريد أيضا مالا هذه كتبها يطلبها من النبي ﷺ وفي النهاية قال عنواني في مكان الفلاني.

أين هذا الكاتب لهذه الورقة من قوله -تبارك وتعالى- لنبيه : ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾، وهنا انتبه إلى لطيفة عجيبة في هذه الآية، في سورة البقرة، وسور أخرى، يقول الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَك﴾ ويتبع ذلك بقولِه: ﴿قُل﴾ لهم كذا؛ لأنه ﷺ واسطة في ماذا؟ في إبلاغِ الدين. ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ﴾ [البقرة:189] ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى﴾ [البقرة:222] ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ﴾ [البقرة:220] إلى غير ذلك من الآيات.

هنا في هذه الآية لم يقل "قل"، قال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ لأن التوجه إلا الله توجه بلا واسطة، أينما تكون في الدنيا واحتجت إلى حاجة؛ سل الله بدون واسطة، لا تبحث عن وسطاء، مباشرة اتجه إلى الله، مباشرة ارفع يديك أينما كنت في الدنيا، حتى لو كنت في كهف مظلم، وفي صخرة مُطبِقة عليك في مكان مظلم توجه إليه؛ يراك رب العالمين، ويطلع عليك، ويكشف كربتك، ويزيل همك، ويرزقك من حيث لا تحتسب، الأمور بيده والملك ملكه، والخلق خلقه -تبارك وتعالى-، المثال الذي ذَكرتُهُ في الخطاب الذي أشرتُ إليه، يندرج تحت أي شفاعة؟ مثبتة أم منفية؟ الإجابة: منفية، لا نخلط الأمور ونقول دلت الأدلة على أنه شفيع للناس، أليس هو قال لفاطمه بنته: "يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئتِ، لا أغني عنك من الله شيئا" [3] وقال ذلك لعمه العباس، ولعمته صفيَّة، ولقرابته، خاطبهم بذلك وناداهم به، صلوات الله وسلامه عليه.

إذًا هذه الشفاعة نفاها الله - تبارك وتعالى- في القرآن؛ فيجب علينا أن نحذر من الوقوع في مثل هذا الأمر الذي نفاه الله -تبارك وتعالى- في القرآن.

قال: "والشفاعة المثبتة أي التي أثبتها الله في القرآن، هي التي تطلب من الله، والشافع مُكرَم بالشفاعة، والمشفوع له من رضي الله قوله وعمله بعد الإذن"

انظر جمال العلم، وجمال البيان، والنصيحة، الشفاعه المثبتة: هي التي تُطلب من الله؛ لأن الله قال: ﴿قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾ [الزمر:44] الشفاعة لله، من أراد أن يَشْفَع، لا بد أن يأذن الله له، بدون إذن الله لا يكون، قال تعالى: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، في الآية الأخرى قال: ﴿وَكَم مِّن مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ [النجم: 26]، فإذا هي ملك لله، وبيده -تبارك تعالى- و أي أحد كائناً مَن كان يريد أن يشفع عند الله، لابد أن يأذن الله له بالشفاعة، هذا أمر.

وأيضاً من أراد لنفسه أن يكون الأنبياء والملائكة شفعاء له عند الله يطلبها منهم أو ممن بيده الشفاعة؟ انتبهوا، يطلبها منهم أي يتوجه إليهم بطلبها، يناديهم، أو يتوجه إلى الله سبحانه وتعالى؟ الشفاعة بيده. فمن أراد لنفسه أن يكون الأنبياء شفعاء له والملائكة عند الله، عليه أن يقول في طلبه ودعائه: يا رب -يسأل الله- يارب شفِّع فيَّ أنبياءك، أو يقول اللهمَّ اجعل نبيك محمد ﷺ شفيعاً لى يوم القيامة، وهكذا نقول في دعائنا، نسأل الله -تبارك وتعالى- نقول: اللهم اجعل نبيك محمد ﷺ شفيعاً لنا يوم القيامة، اللهم اجعلنا ممَّن يشفع لهم نبيُّك ﷺ يوم القيامة، نسأل الله -جل وعلا-، نطلب من الله؛ لأنَّ الشفاعة ملك لله -سبحانه وتعالى، وهي لا تكون إلا بإذنه للشافع ورضاه تبارك وتعالى- عن المشفوع له. ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ﴾ [الأنبياء: 28] أرأيتم لو أن شخصًا كافرا، مشركا، يعبد الأوثان، ومات على عبادة الأوثان، وشُفع له عند الله -تبارك وتعالى- هل تنقذه هذه الشفاعة من النار؟ ويخَرج بها من النار؟ قال تعالى: ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾ [المدثر: 48]

وفي صحيح البخاري قصة عظيمة جدًّا تهز القلوب هزًّا، رواها الإمام البخاري في صحيحه، وهي قصة إبراهيم الخليل مع والده يوم القيامة، ذكرها نبيُّنا ﷺ قال: "يلقى إبراهيم الخليل أباه يوم القيامة، فيقول له: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول والده: الآن لا أعصيك، ثمَّ يقول إبراهيم الخليل، خليل الرَّحمن يقول: يارب ألم تعدني ألا تخزني يوم يبعثون؟ وأيُّ خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله -تبارك وتعالى-: (إنِّي حرَّمتُ الجنةَ على الكافرين) هذا جواب الله لإبراهيم - خليل الرحمن- ثم يقول له، يقول الله لإبراهيم: انظر، فيلتفت وإذا والده صار على هيئة زيخ"، والزيخ: ذكر الضباع ملطخٌ بدمه، قال: "يؤخذ بقوائمه، فيطرح في النار." [4] ذكر الله -سبحانه وتعالى- ذلك عن والد إبراهيم .

واقرأ في آخر سورة التحريم قول الله -تبارك وتعالى-: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [التحريم: 10] ونوح لم يغني عن ابنه شيئًا؛ لأنه كان كافرًا، ولم يغنِ عن زوجته شيئًا؛ لأنها كانت كافرة، إبراهيم لم يغني عن أبيه شيئًا؛ لأنَّه كان كافراً، فالشفاعة لا تكون إلا بإذن الله للشافع ورضا الله -تبارك وتعالى- عن المشفوع له.

واسمع حديثًا رواه الإمام مسلم في صحيحه يرضى عنك الله به: أبو هريرة -رضي الله عنه- سأل النَّبيَّ ﷺ سؤالًا مُهمًّا، وعظيمًا، وكبيرًا، قال يا رسول الله: من أحق الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ ماذا كان الجواب؟ قال: "مَن قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه" [5]، وأيضاً روى مسلم في صحيحه عن نبينا ﷺ أنه قال: "لكل نبي دعوة مستجابة، وإنِّي ادخرت دعوتي؛ شفاعةً لأمتي يوم القيامة، وإنها نائلة إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئاً" [6] انتبه هنا: وإنها نائلة إن شاء الله مَن لا يشرك بالله شيئا؛ ولهذا أنبهك هنا أن في موضوع الشفاعة ثلاثة فصول مهمة ينبغي أن تحفظها:

الفصل الأول: أن الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله.

الفصل الثاني: أن الشفاعة لا تكون إلا عمن رضي الله عنه قوله وعمله.

الفصل الثالث: أن الله -سبحانه وتعالى- لا يرضى إلا عن أهل التوحيد.

هذه ثلاثة فصول في الشفاعة، احفظها ينفعك الله -تبارك وتعالى- بها، الشفاعة التي أثبتها الله -تبارك وتعالى- في القرآن.

قال المصنف: "والشفاعة هي التي تُطلب من الله، والشافع مُكرَمٌ بالشفاعة، والمشفوع له من رضي الله قوله وعمله بعد الإذن"

وجُمع بين هذين الشرطين، الرضا والإذن في قوله تعالى من سورة النجم: ﴿وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ [النجم: 26] الإذن للشافع، والرضا عن المشفوع له، والله -تبارك وتعالى- لا يرضى إلا عن أهل التوحيد.

قال -رحمه الله- كما قال تعالى: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾

هذا والله أعلم وصلَّى الله وسلَّم على عبد الله ورسولِه نبيِّنا مُحَمَّدٍ وآلِه وصحبِه أجمعين.

الهوامش

[*] الشيخ عبد الرزاق البدر -حفظه الله- نوّه بأنه لا يُسمَحُ بنشر التفريغات المنشورة على مجموعات التليجرام، لأنه لم يراجعها، فقمنا -نحن فريق إدارة الموقع- بسماع الدروس وكتابتها وتنسيقها وتحريرها وتدقيقها واختصار التكرارات فيها حتى لا يملّ القارئ، اختصاراً موجزاً لا يُخلُّ بالمعنى، ولا يَحذِفُ فائدة، ولا يُخفي معلومة، وقمنا بإضافة هامش لعرض مصادر الأحاديث التي يذكرها الشيخ والفوائد والقصص كلما أمكن ذلك.

[1] قال ابن القيم رحمه الله: "وكان شيخ الاسلام ابن تيمية يقول: من فارق الدليل ضل السبيل، ولا دليل إلا بما جاء به الرسول".

[مفتاح دار السعادة (١/ ٨٣)]

[2] وروى أبو نعيم من طريق محمد بن الحسن بن زبالة، عن حكيم بن عطاء السّلميّ، من ولد راشد بن عبد ربه: عن أبيه، عن جده راشد بن عبد ربه، قال: كان الصنم الّذي يقال له سواع بالمعلاة، فذكر قصّة إسلامه وكسره إياه.

ورواه أبو حاتم بسند له، وفيه: أنه كان عند الصنم يوما إذ أقبل ثعلبان فرفع «٤» أحدهما رجله فبال على الصنم وكان سادنه غاوي بن ظالم فأنشد:

أَرَبّ يبولُ الثعلبانُ برأسِه *** لقد هان مَن بالت عليه الثَّعَالِبُ

ثم كسر الصنم، وأتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال له: أنت راشد بن عبد الله.

[ابن حجر العسقلاني، كتاب الإصابة في تمييز الصحابة، ج2، ص 361 (2523 ز)]

معاني الكلمات: الثعلبان: هو ذَكَرُ الثعلب

[3] الحديث: "قَامَ رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم حِينَ أنْزَلَ الله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، قالَ: يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -أوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ؛ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شيئًا، يا بَنِي عبدِ مَنَافٍ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شيئًا، يا عَبَّاسُ بنَ عبدِ المُطَّلِبِ، لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ الله شيئًا، ويَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسولِ الله، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شيئًا، ويَا فَاطِمَةُ بنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي ما شِئْتِ مِن مَالِي، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شيئًا".

الراوي: أبو هريرة / المحدث: البخاري / المصدر: صحيح البخاري / الصفحة أو الرقم: 4771 / خلاصة حكم المحدث: [صحيح] / التخريج: أخرجه البخاري (4771)، ومسلم (206)

[4] الحديث: "يَلْقَى إبْراهِيمُ أباهُ آزَرَ يَومَ القِيامَةِ، وعلَى وجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وغَبَرَةٌ، فيَقولُ له إبْراهِيمُ: ألَمْ أقُلْ لكَ: لا تَعْصِنِي؟ فيَقولُ أبُوهُ: فاليومَ لا أعْصِيكَ، فيَقولُ إبْراهِيمُ: يا رَبِّ، إنَّكَ وعَدْتَنِي أنْ لا تُخْزِيَنِي يَومَ يُبْعَثُونَ، فأيُّ خِزْيٍ أخْزَى مِن أبِي الأبْعَدِ؟ فيَقولُ الله تَعالَى: إنِّي حَرَّمْتُ الجَنَّةَ علَى الكافِرِينَ، ثُمَّ يُقالُ: يا إبْراهِيمُ، ما تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ فَيَنْظُرُ، فإذا هو بِذِيخٍ مُلْتَطِخٍ، فيُؤْخَذُ بقَوائِمِهِ فيُلْقَى في النَّارِ."

الراوي: أبو هريرة / المحدث: البخاري / المصدر: صحيح البخاري / الصفحة أو الرقم: 3350 / خلاصة حكم المحدث: [صحيح]

[5] الحديث: "قِيلَ يا رَسولَ الله مَن أسْعَدُ النَّاسِ بشَفَاعَتِكَ يَومَ القِيَامَةِ؟ قالَ رَسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلَّمَ: لقَدْ ظَنَنْتُ يا أبَا هُرَيْرَةَ أنْ لا يَسْأَلُنِي عن هذا الحَديثِ أحَدٌ أوَّلُ مِنْكَ لِما رَأَيْتُ مِن حِرْصِكَ علَى الحَديثِ أسْعَدُ النَّاسِ بشَفَاعَتي يَومَ القِيَامَةِ، مَن قالَ لا إلَهَ إلَّا الله، خَالِصًا مِن قَلْبِهِ، أوْ نَفْسِهِ."

الراوي: أبو هريرة / المحدث: البخاري / المصدر: صحيح البخاري / الصفحة أو الرقم: 99 / خلاصة حكم المحدث: [صحيح]

[6] الحديث: "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجابَةٌ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وإنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتي شَفاعَةً لِأُمَّتي يَومَ القِيامَةِ، فَهي نائِلَةٌ إنْ شاءَ الله مَن ماتَ مِن أُمَّتي لا يُشْرِكُ باللَّهِ شيئًا."

الراوي: أبو هريرة / المحدث: مسلم / المصدر: صحيح مسلم / الصفحة أو الرقم: 199 / خلاصة حكم المحدث: [صحيح]